السبت، 2 يونيو 2012

منهج النبي عليه السلام في تفعيل قيمة العدل




إضافة إلى تلك النصوص المتنوعة التي أرست مبدأ العدل في المجتمع ، وحددت معالمه العامة ، كان النموذج التطبيقي للعدل المتمثل بالقدوة العليا للمجتمع هو الأسلوب الأمثل في تفعيل العدل من الناحية العملية والواقعية ، بل هو الذي أكسب النصوص التشريعية مدلولها الحقيقي الفعال على أرض الواقع ؛ لذا كان النبي r يتوخاه في كل تصرفاته سواء مع الأتباع أو مع غير المسلمين من أتباع الدولة الإسلامية باعتباره القائد الأعلى للأمة والمجتمع المدني ، وكان القرآن يوجه تصرفاته لكي تؤتي هذه القيمة ثمارها الربانية المرجوة ، وهذه نماذج تبرز مدى التزام النبي r بمبدأ العدل :

أولاً:  كمال عدل النبي r .  
 كانت فطرة النبي r  السليمة مهيأة للعدل من صغره ، فقد اشترك في حلف الفضول الداعي إلى دفع الظلم ، واستمر في حياته يتحرى العدل ويدعو له ، أما عن تمثل النبي r للعدل فهذا واضح في كل حياته ؛ حيث لم يتميز عن صحابته وهم له تبع بملبس أو مأكل أو مجلس ، بل كان في كل ذلك أقلهم حالاً ، ولم تحُل قيادته ورئاسته عن انخراطه فيمن حوله أو تميزه عنهم بشيء ، ومن عدله أنه قد استعد للاقتصاص منه بسبب وخزه لسواد بن غزية بسهم  في غزوة بدر ، فقبيل المعركة قام النبي r   كقائد للجيش بتسوية الصفوف وتعديلها ، وكان بيده سهم يعدل به القوم ، فمر بسواد بن غزية وهو متقدم عن الصف فطعن في بطنه بالسهم أو القدح ، وقال : «  اسْتَوِ يَا سَوّادُ ، فَقَالَ :  يَا رَسُولَ اللّهِ أَوْجَعْتنِي ، وَقَدْ بَعَثَك اللّهُ بِالْحَقّ وَالْعَدْلِ قَالَ : فَأَقِدْنِي فَكَشَفَ رَسُولُ اللّهِ  r  عَنْ بَطْنِهِ وَقَالَ اسْتَقِدْ قَالَ فَاعْتَنَقَهُ فَقَبّلَ بَطْنَهُ فَقَالَ : مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا يَا سَوّادُ ؟ قَالَ : يَا رَسُولَ اللّهِ حَضَرَ مَا تَرَى ، فَأَرَدْت أَنْ يَكُونَ آخِرَ الْعَهْدِ بِك أَنْ يَمَسّ جِلْدِي جِلْدَك ... »  ([1]
 ومن عدله أنه  «  بَيْنَمَا  كان يَقْسِمُ قَسْمًا أَقْبَلَ رَجُلٌ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ ،  فَطَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ  r  بِعُرْجُونٍ كَانَ مَعَهُ فَجُرِحَ بِوَجْهِهِ .  فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ  r :  تَعَالَ فَاسْتَقِدْ فَقَالَ : بَلْ عَفَوْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. » ([2])  ومن ذلك  أن  رَجُلاً مِنْ الْعَرَبِ قَالَ : «  زَحَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ  r  يَوْمَ حُنَيْنٍ وَفِي رِجْلِي نَعْلٌ كَثِيفَةٌ ، فَوَطِئْتُ بِهَا عَلَى رِجْلِ رَسُولِ اللَّهِ  r  فَنَفَحَنِي نَفْحَةً بِسَوْطٍ فِي يَدِهِ  وَقَالَ : بِسْمِ اللَّهِ أَوْجَعْتَنِي .  قَالَ : فَبِتُّ لِنَفْسِي لَائِمًا أَقُولُ أَوْجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  r  قَالَ :  فَبِتُّ بِلَيْلَةٍ كَمَا يَعْلَمُ اللَّهُ ،  فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا رَجُلٌ يَقُولُ :  أَيْنَ فُلَانٌ ؟  قَالَ :  قُلْتُ هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي كَانَ مِنِّي بِالْأَمْسِ  . قَالَ  : فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مُتَخَوِّفٌ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ  r  إِنَّكَ وَطِئْتَ بِنَعْلِكَ عَلَى رِجْلِي بِالْأَمْسِ فَأَوْجَعْتَنِي ، فَنَفَحْتُكَ نَفْحَةً بِالسَّوْطِ ، فَهَذِهِ ثَمَانُونَ نَعْجَةً فَخُذْهَا بِهَا » ([3])  
هذه مواقف تبرز مدى حساسية العدل عند النبي r وحرصه على تجنب أي مظهر من مظاهر الظلم ، بل تجنبه لشبهة الظلم في بعض التصرفات ، وهذا لم يقتصر على صحابته بل كان في تعامله مع نسائه وداخل بيته يتحرى العدل بينهن ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : «  كَانَ رَسُولُ اللَّهِ  r  يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ « اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِى فِيمَا أَمْلِكُ فَلاَ تَلُمْنِى فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ ». يَعْنِى الْقَلْبَ » ([4]) ولم يرد عن أي  واحدة من نسائه أنها  قد شكت النبي r أو ادعت أنه قد جار في موقف ما .
وكان النبي r يتحرى إقامة العدل بين صحابته في كل أحكامه يرشد إلى ذلك ما روته عائشة
رضي الله عنها : «   أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا : وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ  r ؟  فَقَالُوا : وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ  r ؟  فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  r  أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ :  إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا . » ([5])
ففي هذا الموقف يجعل النبي r العدل مبدأ لا يخضع للمساومة ، ولا توهنه مكانة أو مقام أو حسب ، بل الناس سواسية في إقراره والاحتكام إليه ؛ لذا لاقى هذا الموقف الذي يريد أن يحابي المخزومية امتعاضاً من النبي r ووعظاً خاصاً به يجسد النبي r فيه  ضرورة عدم إخضاع إقامة العدل لأي استثناءات وإلا كان الهلاك  .
فهذا الموقف وأمثاله كثير ليبرز لنا أن عدل النبي r قد بلغ ما يفوق تصورات كل من حوله ، بل بعد رحلة الرسالة خلال ثلاثة وعشرين سنة يخرج النبي r على الناس خطيباً في مرض وفاته فيقول : « أيها الناس ألا إنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم فمن كنت جلدت له ظهره فهذا ظهري   فليستقد  منه  ، إلا ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي  فليستقد  منه ، ألا لا يقولن رجل إني أخشى الشحناء من قبل رسول الله r ،  ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني ألا وإن أحبكم إلي من أخذ حقا إن كان له،  أو حللني فلقيت الله وأنا طيب النفس ، ألا وإني لا أرى ذلك مغنيا عني  ..  فقام إليه رجل فقال :  يا رسول الله إن لي عندك ثلاثة دراهم . قال : أما إنا لا نكذب قائلا ولا نستحلفه فبم صارت لك عندي . قال : تذكر يوم مر بك مسكين فأمرتني أن أدفعها إليه فقال :  ادفعها إليه يا فضل . » ([6])
بل تخطى العدل عند النبي r دائرة الإنسان إلى الحيوان  ،  فقد دَخلَ يوماً  حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ  حَنَّ – أي الجمل - وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ  r ،  فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ – موضع الأذنين من مؤخرة الرأس - فَسَكَتَ .  فَقَالَ : «  مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ ؟  فَجَاءَ فَتًى مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ :  لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ !  فَقَـالَ : أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ . ([7])
و مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ r  بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ من شدة الجوع  فَقَالَ : «  اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً وَكُلُوهَا صَالِحَةً . » ([8])  بل يؤدب أصحابه من خلال القصص على ضرورة توخي العدل حتى مع أقل الكائنات فيقول r : «   قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنْ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ. »وفي رواية : « هلا نملة واحدة . » ([9])
هذه مواقف متنوعة للنبي r تبرز نهجه مع نفسه وأقرب الناس إليه ورعيته في توخي العدل ، وهي فيض من غيض من هدي النبي المعزز لقيمة العدل والمجسد له في المجتمع حوله . 

ثانياً : عدل النبي r مع غير المسلمين .
عزز النبي r معاني العدالة مع غير المسلمين من الرعية سواء من ناحية الإرشاد والتوجيه أو من الناحية العملية ، من ذلك قول النبي r : «   مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا »  ([10]) «   أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوْ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ »  ([11]) ففي الحديث الأخير نرى النبي r   قد ألبس نفسه ثوب المناصر والمدافع عن حقوق أهل الذمة أو أهل الكتاب ، بل يحاجج عنهم ضد أتباعه يوم القيامة ، إذا حصل من أتباعه أي ظلم نحوهم .
ولم يقتصر جهد النبي r على الجانب الإرشادي بل تعداه نحو الجانب العملي حيث اهتم     برعاية حقوق اليهود في المدينة وعدم إنقاص شيء منها ، من ذلك  ما رواه  ابْن أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيِّ : « أَنَّهُ كَانَ لِيَهُودِيٍّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ . فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ إِنَّ لِي عَلَى هَذَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَيْهَا . فَقَالَ : أَعْطِهِ حَقَّهُ . قَالَ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا . قَالَ أَعْطِهِ حَقَّهُ . قَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا قَدْ أَخْبَرْتُهُ أَنَّكَ تَبْعَثُنَا إِلَى خَيْبَرَ ، فَأَرْجُو أَنْ تُغْنِمَنَا شَيْئًا فَأَرْجِعُ فَأَقْضِيهِ . قَالَ : أَعْطِهِ حَقَّهُ قَالَ : وَكَانَ النَّبِيُّ r    إِذَا قَالَ ثَلَاثًا لَمْ يُرَاجَعْ ،  فَخَرَجَ بِهِ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ إِلَى السُّوقِ وَعَلَى رَأْسِهِ عِصَابَةٌ وَهُوَ مُتَّزِرٌ بِبُرْدٍ فَنَزَعَ الْعِمَامَةَ عَنْ رَأْسِهِ فَاتَّزَرَ بِهَا وَنَزَعَ الْبُرْدَةَ فَقَالَ  : اشْتَرِ مِنِّي هَذِهِ الْبُرْدَةَ فَبَاعَهَا مِنْهُ بِأَرْبَعَةِ الدَّرَاهِمِ ، فَمَرَّتْ عَجُوزٌ فَقَالَتْ :  مَا لَكَ يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ  r   فَأَخْبَرَهَا فَقَالَتْ هَا دُونَكَ هَذَا بِبُرْدٍ عَلَيْهَا طَرَحَتْهُ عَلَيْهِ » ([12])
ويأتي القرآن ليعزز جانب العدالة المطلقة دون النظر إلى دين أو ملة ، من ذلك ما يذكره المفسرون من أن رجلاً من الأنصار سرق درعًا من حديد في عهد النبي  r  وطرحه على يهودي، فقال اليهودي: والله ما سرقتها يا أبا القاسم، ولكن طرحت عليّ! وكان للرجل الذي سرق جيرانٌ يبرِّئونه ويطرحونه على اليهودي ويقولون: يا رسول الله، إن هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وبما جئت به! فمال النبي  r إلى تبرئة الرجل واتهام اليهودي خاصة أنها أن الدرع وجدت عند اليهودي ، وليس عنده بينة في نفي التهمة عن نفسه ، فعاتبه الله عز وجل في ذلك فقال : « إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ... إلى قوله تعالى : وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا . » ([13])
فالآيات صريحة في توجيه النبي r نحو تحري العدل في أحكامه ، ودلالة الآيات صريحة في اعتبار اليهودي بريئاً مما اتهم به وأن صاحب الإثم ذلك الرجل الذي ينتسب للأنصار ، وقد وصفته الآيات بالخائن واعتبرت ما رمى به اليهودي هو بهتان وإثم مبين ، وهذا المنهج القرآني في تحري العدل كان له أثره في التربية العملية على تجسيده والاحتياط في إقامته دون النظر لأي اعتبارات أخرى كالدين والملة ، فالعدل هو العدل أياً كان صاحبه .

ثالثاً : أثر عدل النبي r على أتباعه في حياته وبعده .
رأى الصحابة عدل النبي r ، بل لاحظوا مدى حساسية هذا المبدأ في رسالة الإسلام حيث أبرزت النصوص أنه روح رسالة محمد r ؛ لذا تمثلوا هذا المبدأ في حياتهم العملية حكاماً ومحكومين ، بل كانوا يتعاطون مع مبدأ العدل بحساسية مفرطة رعاية لتحقيقه ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال   : «   لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا الْآيَةَ ،  انْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ  ، وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ فَجَعَلَ يَفْضُلُ مِنْ طَعَامِهِ فَيُحْبَسُ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَهُ أَوْ يَفْسُدَ ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ  r  فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ  . فَخَلَطُوا طَعَامَهُمْ بِطَعَامِهِ وَشَرَابَهُمْ بِشَرَابِهِ » ([14])
فهذا الأثر يبرز مدى الحساسية التي كان يتعاطاها الولي ليضمن عدم الاعتداء على مال اليتيم ظلماً ، والظلم نقيض العدل ، كذلك يبرز هذا الأثر مدى درجة التربية التي وصل إليها المسلمون في رعاية حقوق الغير .
بل ارتقت تربية الصحابة من درجة العدل إلى درجة الإحسان ، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما تولى الحكم وفتحت الأمصار وكثرت الأموال قام توزيعها بين الصحابة ضمن منهج عادل راعى فيه الأسبقية والهجرة  والمشاركة مع النبي r في الغزوات : « .. فَفَرَضَ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا خَمْسَةَ آلاَفٍ خَمْسَةَ آلاَفٍ وَفَرَضَ لِمَنْ كَانَ لَهُ إِسْلاَمٌ كَإِسْلاَمِ أَهْلِ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا أَرْبَعَةَ آلاَفٍ أَرْبَعَةَ آلاَفٍ وَفَرَضَ لأَزْوَاجِ النَّبِىِّ  r  اثْنَىْ عَشَـرَ أَلْفًا اثْنَىْ عَشَرَ أَلْفًا . » ([15])
  هذا منهج عمر رضي الله عنه وميزانه العادل في توزيع الأموال ، ولم يقتصر على جانب العدل بل تعداه إلى جانب الإحسان ، وخالف منهجه حيث فرض لأسامة بن زيد أربعة آلاف ، وفرض لابنه عبد الله رضي الله عنه ثلاثة آلاف ، وكان لهما نفس الدرجة والأسبقية ، وكان تفضيل أسامة على عبد الله بن عمر موطن استهجان عند الكثيرين ، وجاء عبد الله t  وقال لأبيه : «  يَا أَبَهْ ! لِمَ زِدْتَهُ عَلَىَّ أَلْفًا مَا كَانَ لأَبِيهِ مِنَ الْفَضْلِ مَا لَمْ يَكُنْ لأَبِى ، وَمَا كَانَ لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِي فَقَالَ : إِنَّ أَبَا أُسَامَةَ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ  r  مِنْ أَبِيكَ ، وَكَـانَ أُسَامَةُ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ  r  مِنْكَ . » ([16])
فالعدل يقتضي المساواة بين أسامة وعبد الله ، والإحسان يقتضي تفضيل أسامة على عبد الله ، والمحاباة في الغالب تتجه نحو البنوة على الغريب ، لكنها هنا على خلاف القاعدة الفطرية ، وهي تبرز مستوى التربية المثالي الذي تلقاه الصحابة في تقرير العدل . 
د. محمد المبيض         ثقافة السلام 


([1]) انظر الهيثمي : مجمع الزوائد ( 6/289) ؛ ابن حجر : الإصابة ( 3/218) ؛  الجزائري : هذا الحبيب ( 220 )  
([2]) أخرجه أبو داود برقم 4536 [ السنن ( 4/182) ] ؛ والنسائي برقم 4773 [ السنن ( 8/32) ] ، والحديث فيه ضعف يجبره الشاهد الصحيح  في قصة سواد
([3]) أخرجه الدارمي برقم 72 [ سنن الدارمي ( 1/48) ]
([4]) أخرجه أبو داود برقم 2136 ( 2/208) ؛ و صححه ابن الملقن وقال : رواه أحمد والدارمي وأصحاب السنن الأربعة والحاكم وابن حبان في صحيحيهما [ ابن الملقن : البدر المنير ( 7/481) ]
([5]) أخرجه البخاري برقم  3476 ( 4/175)  
([6]) أخرجه الطبراني برقم 718 [ المعجم الكبير (18/280)] ؛ قال الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير والأوسط وأبو يعلى ، وفي إسناد أبي يعلى عطاء مسلم ، وثقه ابن حبان ، وبقية رجال أبي يعلى ثقات [ مجمع الزوائد ( 9/26) ]
([7]) أخرجه أبو داود برقم 2549   ( 3/23)   ؛ والحاكم برقم 2845 ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه [ المستدرك ( 2/109]  
([8]) أخرجه أبو داود برقم 2548   ( 3/23)   ؛ وأحمد برقم 15629 ( 24/392) ؛ قال الهيثمي : رواه أحمد وإسناده حسن [ مجمع الزوائد ( 10/205) ]  
([9]) أخرجه البخاري برقم  3019  ( 4/62)
([10])  أخرجه البخاري برقم 3166  ( 4/99) 
([11]) أخرجه أبو داود  برقم 3054 ( 3/136) ؛ وصححه الألباني [ السلسلة الصحيحة ( 1/807) ]
([12])  أخرجه أحمد [ المسند ( 3/423) ] ؛ قال الهيثمي : رواه أحمد والطبراني في الصغير والأوسط ورجاله ثقات إلا أن محمد ابن أبي يحيى لم أجد له رواية عن الصحابة فيكون مرسلا صحيحا [ مجمع الزوائد ( 4/130) ]
([13]) انظر : الطبري : جامع البيان ( 9/185 وما بعدها ) ؛ ابن كثير : تفسير القران العظيم (  2/404 وما بعدها )
([14]) أخرجه أبو داود برقم 2871  ( 3/114) ؛ والنسائي برقم 3670 ( 6/256)  
([15]) أخرجه البيهقي برقم 13379 [ السنن الكبرى ( 6/350) ]
([16]) المرجع السابق نفس الجزء والصفحة 

ليست هناك تعليقات: