إضافة إلى تلك
النصوص المتنوعة التي أرست مبدأ العدل في المجتمع ، وحددت معالمه العامة ، كان
النموذج التطبيقي للعدل المتمثل بالقدوة العليا للمجتمع هو الأسلوب الأمثل في
تفعيل العدل من الناحية العملية والواقعية ، بل هو الذي أكسب النصوص التشريعية
مدلولها الحقيقي الفعال على أرض الواقع ؛ لذا كان النبي r يتوخاه في كل
تصرفاته سواء مع الأتباع أو مع غير المسلمين من أتباع الدولة الإسلامية باعتباره
القائد الأعلى للأمة والمجتمع المدني ، وكان القرآن يوجه تصرفاته لكي تؤتي هذه
القيمة ثمارها الربانية المرجوة ، وهذه نماذج تبرز مدى التزام النبي r بمبدأ العدل :
أولاً: كمال عدل
النبي r .
كانت فطرة النبي r السليمة
مهيأة للعدل من صغره ، فقد اشترك في حلف الفضول الداعي إلى دفع الظلم ، واستمر في
حياته يتحرى العدل ويدعو له ، أما عن تمثل النبي r
للعدل فهذا واضح في كل حياته ؛ حيث لم يتميز عن صحابته وهم له تبع بملبس أو مأكل
أو مجلس ، بل كان في كل ذلك أقلهم حالاً ، ولم تحُل قيادته ورئاسته عن انخراطه
فيمن حوله أو تميزه عنهم بشيء ، ومن عدله أنه قد استعد للاقتصاص منه بسبب وخزه
لسواد بن غزية بسهم في غزوة بدر ، فقبيل
المعركة قام النبي r
كقائد للجيش بتسوية الصفوف وتعديلها ، وكان بيده
سهم يعدل به القوم ، فمر بسواد بن غزية وهو متقدم عن الصف فطعن في بطنه بالسهم أو
القدح ، وقال : « اسْتَوِ يَا سَوّادُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللّهِ أَوْجَعْتنِي ، وَقَدْ بَعَثَك
اللّهُ بِالْحَقّ وَالْعَدْلِ قَالَ : فَأَقِدْنِي فَكَشَفَ رَسُولُ اللّهِ r عَنْ بَطْنِهِ وَقَالَ اسْتَقِدْ
قَالَ فَاعْتَنَقَهُ فَقَبّلَ بَطْنَهُ فَقَالَ : مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا يَا سَوّادُ
؟ قَالَ : يَا رَسُولَ اللّهِ حَضَرَ مَا تَرَى ، فَأَرَدْت أَنْ يَكُونَ آخِرَ الْعَهْدِ
بِك أَنْ يَمَسّ جِلْدِي جِلْدَك ...
» ([1])
ومن عدله أنه
« بَيْنَمَا كان يَقْسِمُ قَسْمًا أَقْبَلَ رَجُلٌ فَأَكَبَّ
عَلَيْهِ ، فَطَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ r
بِعُرْجُونٍ كَانَ مَعَهُ فَجُرِحَ
بِوَجْهِهِ . فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ
r
: تَعَالَ فَاسْتَقِدْ فَقَالَ : بَلْ
عَفَوْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. » ([2]) ومن ذلك
أن رَجُلاً مِنْ الْعَرَبِ قَالَ :
« زَحَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ r
يَوْمَ حُنَيْنٍ وَفِي رِجْلِي نَعْلٌ
كَثِيفَةٌ ، فَوَطِئْتُ بِهَا عَلَى رِجْلِ رَسُولِ اللَّهِ r
فَنَفَحَنِي نَفْحَةً بِسَوْطٍ فِي يَدِهِ
وَقَالَ : بِسْمِ اللَّهِ أَوْجَعْتَنِي .
قَالَ : فَبِتُّ لِنَفْسِي لَائِمًا
أَقُولُ أَوْجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r
قَالَ : فَبِتُّ بِلَيْلَةٍ كَمَا يَعْلَمُ اللَّهُ ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا رَجُلٌ يَقُولُ : أَيْنَ فُلَانٌ ؟ قَالَ : قُلْتُ هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي كَانَ مِنِّي
بِالْأَمْسِ . قَالَ : فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مُتَخَوِّفٌ فَقَالَ
لِي رَسُولُ اللَّهِ r
إِنَّكَ وَطِئْتَ بِنَعْلِكَ عَلَى
رِجْلِي بِالْأَمْسِ فَأَوْجَعْتَنِي ، فَنَفَحْتُكَ نَفْحَةً بِالسَّوْطِ ، فَهَذِهِ
ثَمَانُونَ نَعْجَةً فَخُذْهَا بِهَا » ([3])
هذه مواقف تبرز مدى حساسية
العدل عند النبي r وحرصه على تجنب أي مظهر
من مظاهر الظلم ، بل تجنبه لشبهة الظلم في بعض التصرفات ، وهذا لم يقتصر على
صحابته بل كان في تعامله مع نسائه وداخل بيته يتحرى العدل بينهن ، عَنْ عَائِشَةَ رضي
الله عنها قَالَتْ
: « كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ
« اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِى فِيمَا أَمْلِكُ فَلاَ تَلُمْنِى فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ
أَمْلِكُ ». يَعْنِى الْقَلْبَ » ([4])
ولم يرد عن أي واحدة من نسائه أنها قد شكت النبي r
أو ادعت أنه قد جار في موقف ما .
وكان النبي r يتحرى إقامة العدل بين
صحابته في كل أحكامه يرشد إلى ذلك ما روته عائشة
رضي الله عنها : « أَنَّ
قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ
فَقَالُوا : وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ r
؟ فَقَالُوا : وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ
إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ r
؟ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ r
أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ
اللَّهِ ؟ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ : إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ
أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ
فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ
فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا
. » ([5])
ففي هذا الموقف يجعل النبي r
العدل مبدأ لا يخضع للمساومة ، ولا توهنه مكانة أو مقام أو حسب ، بل الناس سواسية
في إقراره والاحتكام إليه ؛ لذا لاقى هذا الموقف الذي يريد أن يحابي المخزومية
امتعاضاً من النبي r ووعظاً خاصاً به يجسد
النبي r فيه ضرورة عدم إخضاع إقامة العدل لأي استثناءات
وإلا كان الهلاك .
فهذا الموقف وأمثاله كثير
ليبرز لنا أن عدل النبي r
قد بلغ ما يفوق تصورات كل من حوله ، بل بعد رحلة الرسالة خلال ثلاثة وعشرين سنة
يخرج النبي r على
الناس خطيباً في مرض وفاته فيقول : « أيها الناس ألا إنه قد دنا مني حقوق من
بين أظهركم فمن كنت جلدت له ظهره فهذا ظهري
فليستقد منه ، إلا ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد
منه ، ألا لا يقولن رجل إني أخشى الشحناء من قبل رسول الله r
، ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من
شأني ألا وإن أحبكم إلي من أخذ حقا إن كان له، أو حللني فلقيت الله وأنا طيب النفس ، ألا وإني
لا أرى ذلك مغنيا عني .. فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله إن لي عندك ثلاثة دراهم . قال : أما
إنا لا نكذب قائلا ولا نستحلفه فبم صارت لك عندي . قال : تذكر يوم مر بك مسكين
فأمرتني أن أدفعها إليه فقال : ادفعها
إليه يا فضل . » ([6])
بل تخطى العدل عند النبي r دائرة الإنسان إلى
الحيوان ، فقد دَخلَ يوماً حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَإِذَا
جَمَلٌ ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ حَنَّ
– أي الجمل - وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ r
، فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ – موضع الأذنين من
مؤخرة الرأس - فَسَكَتَ . فَقَالَ : « مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ لِمَنْ هَذَا
الْجَمَلُ ؟ فَجَاءَ فَتًى مِنْ
الْأَنْصَارِ فَقَالَ : لِي يَا رَسُولَ
اللَّهِ ! فَقَـالَ : أَفَلَا تَتَّقِي
اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ
شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ . ([7])
و مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ r
بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ
بِبَطْنِهِ من شدة الجوع فَقَالَ : « اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ
الْمُعْجَمَةِ فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً وَكُلُوهَا صَالِحَةً . » ([8])
بل يؤدب أصحابه من خلال القصص على ضرورة
توخي العدل حتى مع أقل الكائنات فيقول r : « قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنْ
الْأَنْبِيَاءِ فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ فَأَوْحَى اللَّهُ
إِلَيْهِ أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنْ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ.
»وفي
رواية : « هلا نملة واحدة . » ([9])
هذه مواقف متنوعة للنبي r تبرز نهجه مع نفسه وأقرب
الناس إليه ورعيته في توخي العدل ، وهي فيض من غيض من هدي النبي المعزز لقيمة
العدل والمجسد له في المجتمع حوله .
ثانياً : عدل النبي r مع غير المسلمين .
عزز النبي r معاني العدالة مع غير
المسلمين من الرعية سواء من ناحية الإرشاد والتوجيه أو من الناحية العملية ، من
ذلك قول النبي r : « مَنْ
قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ
مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا » ([10])
« أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوْ
انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ
طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » ([11]) ففي الحديث الأخير
نرى النبي r قد ألبس
نفسه ثوب المناصر والمدافع عن حقوق أهل الذمة أو أهل الكتاب ، بل يحاجج عنهم ضد
أتباعه يوم القيامة ، إذا حصل من أتباعه أي ظلم نحوهم .
ولم يقتصر جهد النبي r على الجانب الإرشادي بل
تعداه نحو الجانب العملي حيث اهتم برعاية
حقوق اليهود في المدينة وعدم إنقاص شيء منها ، من ذلك ما رواه
ابْن أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيِّ : « أَنَّهُ كَانَ لِيَهُودِيٍّ
عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ . فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ
إِنَّ لِي عَلَى هَذَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَيْهَا . فَقَالَ
: أَعْطِهِ حَقَّهُ . قَالَ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَقْدِرُ
عَلَيْهَا . قَالَ أَعْطِهِ حَقَّهُ . قَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا
أَقْدِرُ عَلَيْهَا قَدْ أَخْبَرْتُهُ أَنَّكَ تَبْعَثُنَا إِلَى خَيْبَرَ ، فَأَرْجُو
أَنْ تُغْنِمَنَا شَيْئًا فَأَرْجِعُ فَأَقْضِيهِ . قَالَ : أَعْطِهِ حَقَّهُ
قَالَ : وَكَانَ النَّبِيُّ r
إِذَا قَالَ ثَلَاثًا لَمْ يُرَاجَعْ ، فَخَرَجَ بِهِ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ إِلَى
السُّوقِ وَعَلَى رَأْسِهِ عِصَابَةٌ وَهُوَ مُتَّزِرٌ بِبُرْدٍ فَنَزَعَ
الْعِمَامَةَ عَنْ رَأْسِهِ فَاتَّزَرَ بِهَا وَنَزَعَ الْبُرْدَةَ فَقَالَ : اشْتَرِ مِنِّي هَذِهِ الْبُرْدَةَ فَبَاعَهَا
مِنْهُ بِأَرْبَعَةِ الدَّرَاهِمِ ، فَمَرَّتْ عَجُوزٌ فَقَالَتْ : مَا لَكَ يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ r
فَأَخْبَرَهَا
فَقَالَتْ هَا دُونَكَ هَذَا بِبُرْدٍ عَلَيْهَا طَرَحَتْهُ عَلَيْهِ »
([12])
ويأتي القرآن ليعزز جانب
العدالة المطلقة دون النظر إلى دين أو ملة ، من ذلك ما يذكره المفسرون من أن رجلاً من الأنصار سرق
درعًا من حديد في عهد النبي r وطرحه على يهودي، فقال اليهودي:
والله ما سرقتها يا أبا القاسم، ولكن طرحت عليّ! وكان للرجل الذي سرق جيرانٌ يبرِّئونه
ويطرحونه على اليهودي ويقولون: يا رسول الله، إن هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وبما
جئت به! فمال النبي r إلى تبرئة الرجل واتهام اليهودي خاصة أنها أن
الدرع وجدت عند اليهودي ، وليس عنده بينة في نفي التهمة عن نفسه ، فعاتبه الله عز وجل
في ذلك فقال : « إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ
خَصِيمًا ، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَلَا تُجَادِلْ
عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا
أَثِيمًا ... إلى قوله تعالى : وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً
أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا
. » ([13])
فالآيات صريحة في توجيه النبي
r نحو تحري العدل في
أحكامه ، ودلالة الآيات صريحة في اعتبار اليهودي بريئاً مما اتهم به وأن صاحب
الإثم ذلك الرجل الذي ينتسب للأنصار ، وقد وصفته الآيات بالخائن واعتبرت ما رمى به
اليهودي هو بهتان وإثم مبين ، وهذا المنهج القرآني في تحري العدل كان له أثره في
التربية العملية على تجسيده والاحتياط في إقامته دون النظر لأي اعتبارات أخرى
كالدين والملة ، فالعدل هو العدل أياً كان صاحبه .
ثالثاً : أثر عدل النبي r على أتباعه في حياته وبعده
.
رأى الصحابة عدل النبي r ، بل لاحظوا مدى حساسية
هذا المبدأ في رسالة الإسلام حيث أبرزت النصوص أنه روح رسالة محمد r ؛ لذا تمثلوا هذا المبدأ
في حياتهم العملية حكاماً ومحكومين ، بل كانوا يتعاطون مع مبدأ العدل بحساسية
مفرطة رعاية لتحقيقه ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال : « لَمَّا
أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى
ظُلْمًا الْآيَةَ ، انْطَلَقَ مَنْ كَانَ
عِنْدَهُ يَتِيمٌ فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ ، وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ فَجَعَلَ
يَفْضُلُ مِنْ طَعَامِهِ فَيُحْبَسُ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَهُ أَوْ يَفْسُدَ ،
فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ r فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ : وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ
تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ .
فَخَلَطُوا طَعَامَهُمْ بِطَعَامِهِ وَشَرَابَهُمْ بِشَرَابِهِ
» ([14])
فهذا الأثر يبرز مدى الحساسية
التي كان يتعاطاها الولي ليضمن عدم الاعتداء على مال اليتيم ظلماً ، والظلم نقيض
العدل ، كذلك يبرز هذا الأثر مدى درجة التربية التي وصل إليها المسلمون في رعاية
حقوق الغير .
بل ارتقت تربية الصحابة من
درجة العدل إلى درجة الإحسان ، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما تولى الحكم
وفتحت الأمصار وكثرت الأموال قام توزيعها بين الصحابة ضمن منهج عادل راعى فيه
الأسبقية والهجرة والمشاركة مع النبي r في الغزوات : « .. فَفَرَضَ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ
مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا خَمْسَةَ آلاَفٍ خَمْسَةَ آلاَفٍ وَفَرَضَ لِمَنْ كَانَ لَهُ
إِسْلاَمٌ كَإِسْلاَمِ أَهْلِ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا أَرْبَعَةَ آلاَفٍ أَرْبَعَةَ
آلاَفٍ وَفَرَضَ لأَزْوَاجِ النَّبِىِّ r
اثْنَىْ عَشَـرَ أَلْفًا
اثْنَىْ عَشَرَ أَلْفًا . » ([15])
هذا
منهج عمر رضي الله عنه وميزانه العادل في توزيع الأموال ، ولم يقتصر على جانب
العدل بل تعداه إلى جانب الإحسان ، وخالف منهجه حيث فرض لأسامة بن زيد أربعة آلاف
، وفرض لابنه عبد الله رضي الله عنه ثلاثة آلاف ، وكان لهما نفس الدرجة والأسبقية
، وكان تفضيل أسامة على عبد الله بن عمر موطن استهجان عند الكثيرين ، وجاء عبد
الله t وقال لأبيه : « يَا أَبَهْ ! لِمَ زِدْتَهُ عَلَىَّ أَلْفًا مَا
كَانَ لأَبِيهِ مِنَ الْفَضْلِ مَا لَمْ يَكُنْ لأَبِى ، وَمَا كَانَ لَهُ مَا لَمْ
يَكُنْ لِي فَقَالَ : إِنَّ أَبَا أُسَامَةَ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r مِنْ أَبِيكَ ، وَكَـانَ أُسَامَةُ
أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r
مِنْكَ . » ([16])
فالعدل يقتضي المساواة بين أسامة وعبد الله ،
والإحسان يقتضي تفضيل أسامة على عبد الله ، والمحاباة في الغالب تتجه نحو البنوة
على الغريب ، لكنها هنا على خلاف القاعدة الفطرية ، وهي تبرز مستوى التربية
المثالي الذي تلقاه الصحابة في تقرير العدل . د. محمد المبيض ثقافة السلام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق