السبت، 9 يونيو 2012

دحض تهمة انتشار الإسلام بالسيف



تعتبر تهمة انتشار الإسلام بالسيف من أخطر الطعون في مستوى ثقافة السلام عند النبي محمد r  ، وذلك لما يترتب على هذه التهمة من نتائج خطيرة كفيلة بإلصاق فكر عنصري إحلالي مهيمن على حروب النبي r  ، إضافة إلى أنها تنسف كل فضيلة في الإسلام ساعدت في انتشاره في الأرض ؛لذا نجد أن الكثيرين من المستشرقين قد ركزوا جهودهم في تقرير هذه التهمة وتسويقها في مجتمـعاتهم. ([1]
لكن الجهد الاستشراقي لم يخل من مواقف موضوعية نظرت للحقيقة مجردة فأثبتتها كما هي ؛ لذا وجدنا أن كثيراً من المستشرقين بعدما خبت جذوة الحرب المسعورة والبواعث الاستعمارية التي كانت وراء بحوثهم الاستشراقية فاكتشفوا  أن تلك التهمة كانت عبارة عن سراب وغربال يراد به تغطية الشمس الجلية ، لذا سطروا بأقلامهم كلمات منصفة تقف عند حدود الحقيقة بغض النظر عن صاحبها ، والذي ألجأهم للإذعان لتلك الحقيقة الخالدة هو أن صفحات السيرة النبوية خاصة ما يتعلق في الحروب فيها كانت ناصعة زكية ، وتضمنت مثالية مذهلة قل نظيرها في الوجود ، وإثارة شبهة هنا أو هناك نحو موقف أو موقفين لا يغيض من تلك المثالية كما أن قطرة بول لا تؤثر في طهارة المحيط ، وهذه بعض النصوص التي تدحض تلك التهمة :  
1- يقول أبو الهند الحديثة ( مهاتما غاندي ) في حديث لصحيفة يوتج أنديا : « أردت أن أعرف صفات الرجل الذي يملك بدون نزاع قلوب الملايين ، وأيقنت أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته، ولكن من خلال بساطة الرسول مع رقته وصدقه في الوعود  » ([2]) وفي موضع آخر قال : « كلما أدرس أكثر أكتشف أن قوة الإسلام لا تكمن في السيف . » ([3]
أقول : نعم لا تكمن في السيف ، والعرب بطبيعة شخصياتهم التي تأنف الانقياد للغير لا يمكن أن تنقاد لسطوة السيوف ، بل الموت عندهم أهون من الذل والهوان تحت شعاع السيوف ، ومن تتبع قصة أسرى بدر يجد أن بعض الأسرى لم يعلنوا إسلامهم إلا بعد أن تحرروا من الأسر وخرجوا من المدينة المنورة بالرغم من أن بذرة الإيمان نبتت في قلوبهم وهم في الأسر ، وهذه طبيعة العربي في الجزيرة العربية ، ولا محل لاستيعابهم من خلال سطوة السيوف ، إنما الذي استوعبهم هو سعة رحمة النبي r بهم .
2- يقول البروفيسور عبد المسيح الأنطاكي وهو يوناني الأصل عاش في حلب : « ليس بصحيح ما يدعى أن الإسلام استولى قهراً بالسيف على أكثر من نصف الكرة الأرضية ، بل كان سبب انتشاره شدة رغبة الناس إليه بعد أن أقنع عقولهم ، وأكبر سلاح استعمله المسلمون لبث الدعوة ، هو اتصافهم بالشيم العالية ، ولا يخفى ولوع المغلوب بتقليد الغالب ، وقد انخرط في الإسلام أقوام لم تبلغهم سلطة المسلمين ولم تصلهم . » ([4]
هذا النص يشير صراحة إلى سر انتشار الإسلام المذهل وهو تلك الأخلاقيات التي تميز بها النبي r وجيشه في الحروب ، ونقول لهؤلاء الذين ما يزالون يتمسكون بتلك الفرية ارجعوا للتاريخ مرة أخرى واسألوا أنفسكم هل السيف كان وراء إخلاص عكرمة t وتضحيته بماله ونفسه في سبيل الله وتقديمها رخيصة في معركة اليرموك للذود عن حوض الإسلام ، وهل السيف كان وراء إخلاص سهيل بن عمرو ، يقول الزبير بن بكار : «  كان سهيل بن عمرو بعد إسلامه كثير الصلاة والصوم والصدقة خرج بجماعته إلى الشام مجاهداً ، ويقال أنه صام وتهجد حتى شحب لونه وتغير وكان كثير البكاء إذا سمع القرآن . » ([5])
هذا ما يحكيه التاريخ عن سيرة ألد أعداء الإسلام بعد إسلامهم ، ولم يكن السيف على رقابهم ليقوموا بهذه الأعمال الجليلة التي تنم عن قناعة كاملة برسالة الإسلام .
3-  يقول دي لاسي أوليري في كتابه الإسلام في مفترق الطرق ص 8: « قد كشف التاريخ أن الأسطورة التي تزعم أن المسلمين المتعصبين زحفوا على العالم يفرضون الإسلام بالقوة على أجناس الدول المفتوحة هي واحدة من أكثر الخرافات والأساطير التي رددها المؤرخون سخافة . » ([6])
نعم هي خرافة تكذبها حقائق التاريخ ، وسخافة ألجأ لها التعصب الأعمى وإخراج العلم عن أهدافه السامية وتسخيره لخدمة مآرب استعمارية ، سخافة حاول أهلها أن يشوهوا من خلالها أنصع صفحة في تاريخ الإنسانية ، ومن السخافة أن يظنوا أنهم يقدرون على ذلك ، بل من السخافة أن يتصوروا أن السيف والقوة يمكن أن تقرر عقيدة وفضيلة في أمة عبر قرون إلى يومنا هذا ؛ وتنتج حضارة تعتبر من أرقى الحضارات فكراً وسلوكاً وأخلاقاً إلى يومنا هذا ، وما زالت تمتلك القوة العجيبة في استقطاب الناس نحوها حتى في المراحل التي غُلبت فيها هذه الحضارة على أمرها وخبا بريق سيفها ؛ لذا وجد بين المستشرقين من نسف هذه الخرافة التي لا يصدقها عقل بكلمات لم تكلفه أكثر من سطرين لإثبات زيفها كما في الفقرة التالية .
4-  تقول الباحثة الألمانية زيغريد هونكة : « لعل من أهم عوامل انتصارات العرب ما فوجئت به الشعوب من سماحتهم ، فما يدعيه بعضهم من اتهامهم بالتعصب والوحشية إن هو إلا مجرد أسطورة من نسج الخيال تكذبها آلاف من الأدلة القاطعة عن تسامحهم وإنسانيتهم في معاملاتهم مع الشعوب المغلوبة،والتاريخ لا يقدم لنا في صفحاته الطوال إلا عددًا ضئيلاً من الشعوب التي عاملت خصومها والمخالفين لها في العقيدة بمثل ما فعل العرب. » ([7]

وهذه شهادة أخرى تنسف تلك الأسطورة التي تزعم أن المسلمين كانوا يحملون ثقافة العنف ، ويتميزون بالقسوة والغلظة في حروبهم ، و النص فيه إشارة إلى تلك المساحة الواسعة لقيم ثقافة السلام التي كان المسلمون يحملونها للبلدان التي فتحها المسلمون ، إنها كما تقول زيغرد آلاف الأدلة والشواهد القاطعة بمدى تسامح المسلمين مع غيرهم .
5-  يقول المستشرق جوستاف لوبون ( طبيب ومؤرخ فرنسي )  مدللاً على أن الإسلام انتشر بالدعوة وليس بالسيف : « لم ينتشر القرآن بالسيف بل انتشر بالدعوة وحدها ، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخراً كالترك والمغول ، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل . » ([8])
وهذه لفتة عجيبة تستحق التأمل فالمغول هم الذين قهروا العرب ، ولكن لم يمنع ذلك من اعتناقهم الإسلام ، فالإسلام انتشر وأصحابه مهزومون عسكرياً ، فهل كان السيف وراء إسلام المغول أم هناك قوة أخرى ؟ الإجابة التي لا تحتمل غيرها هي أن هناك قوة أعظم من السيف تغلغلت في قلوب المغول المنتصرين ، وهي قوة الحق الذي جاء به محمد r ، وهي نفس القوة التي تغلغلت في ربوع الهند وأطراف العالم الشرقي كأندونيسيا وماليزيا ، فتلك البلاد لم يفتحها المسلمون بسيوفهم ، وإنما فتحوها بأخلاقهم التي استمدوها من رسالة محمد r  .
هذه بعض النقول – وقد سبق ذكر غيرها في ثنايا البحث -  التي تشهد لنبي الإنسانية رأيت أن أختم بها بحثي هذا ، وهي تؤكد على كل فقرة تضمنها البحث ، وتشير صراحة إلى مدى وضوح ثقافة السلام عند النبي محمد r ، هذه الثقافة التي صنعت التاريخ في الماضي ، وأصلحت الإنسانية وأخرجتها من طور الهواية والانحدار إلى طور الرقي الحضاري ، وما زال بريق هذه الثقافة ساطعاً في عصرنا هذا خاصة مع إلحاح الواقع المرير الذي تعيشه الإنسانية وهذا الانحدار القيمي والأخلاقي الذي تعانيه ، يبقى القول : هل بدأ يشعر الإنسان في ربوع الأرض إلى مدى حاجته لهذه الثقافة الحيوية التي تضمن له رقيه الفكري والإنساني والقيمي بما يؤتي ثماره على مستوى السلم والأمن ........ ؟
د . محمد المبيض                          كتابه          ثقافة السلام  - أخلاقيات الحرب 


([1]لعل الباعث لديهم على تقرير هذه التهمة وتتبع الشبهات المؤكدة عليها هو الانتشار المذهل للإسلام في ربوع العالم القديم بشكل لم يعهد في دين قبله ، وتعزيز فكرة أن أخلاقيات الرسالة وسمو الفضيلة كان وراء ذلك الانتشار المذهل يترتب عليه الإقرار بمصداقية الرسالة وضرورة الإيمان بها ، وهذا ما لا يرجون حصوله ؛ لذا تشبثوا بهذه التهمة ليحصروا الإسلام وينسفوا أثر الفضيلة في انتشاره . 
([2])عبد الله : هذا هو الحبيب ( 15 )   
([3])ديدات : الرسول الأعظم ( 99)
([4]) عبد الوهاب : محمد رسول الإسلام ( 50)
([5]) الذهبي : سير أعلام النبلاء ( 1/195)
([6])ديدات : الرسول الأعظم ( 83) 
([7])  هونكة : شمس العرب تسطع على الغرب ( 357-358)
([8]) لوبون : حضارة العرب ( 128) 

ليست هناك تعليقات: