من
الانكفاء الذاتي إلى الانطلاق الرسالي .
تذكر
كتب التفسير أن أول ما نزل من القرآن بعد بداية سورة العلق ، بداية سورة المزمل
والمدثر اللتين نزلتا بعد ردة فعل النبي r لظاهرة
الوحي الجديدة عليه ؛ حيث ذهب لأهله قائلاً زملوني دثروني ؛ أي غطوني ، فجاءت
الآيات لتبين له أن الوقت ليس وقت عزلة وهروب وتغطية ، بل هو بداية رسالة ستأخذ من
النبي جل وقته وطاقته ، فالرحمة العالمية لا ينبغي لها أن تنام أو تتغطى أو تنعزل
والعالم حولها يحترق بضلالاته وكفره وظلاماته ؛ لذا : } يَا
أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ، قُمِ اللَّيْلَ
إِلَّا قَلِيلاً ، نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ
مِنْهُ قَلِيلاً ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ، إِنَّا
سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ
وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً ، إِنَّ لَكَ
فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً ، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ
تَبْتِيلاً ، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً . { ([1]) وهذه الآيات الكريمة حددت طبيعة ليل نبي الرحمة
، إن أكثره قيام وتضرع وتبتل بين يدي الله
سبحانه وتعالى لكي يستخلص قلبه ويصفو بين يدي ربه ، أما النهار فإن له فيه سبحاً
طويلاً ، هذا السبح الطويل بينته الآيات :
} يَا
أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنذِرْ
، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ، وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ . { ([2]) فليلك يا محمد
قيام ودعاء و نهارك دعوة لدين الله و إنذار وتكبير لرب العالمين الذي امتن
عليك برسالة النور والرحمة ؛ لذا قم يا نبي الرحمة من فراشك ،وانهض لرسالتك وأنقذ البشرية مما
ينتظرها بسبب كفرها وغيها ، قم الليل إلا قليلاً بين يدي ربك ، قم فأنذر وربك فكبر
، قم برسالة الطهر والفضيلة واجتهد لأجلها واصبر في سبيلها فالحمل المنوط بك عظيم
، فإنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً ، وأنت الوحيد في الأرض المؤهل له ، قم لأعظم
رسالة وأجل أمانة عرفتها البشرية ، فملايين البشر منوطون بجهدك ، وملايين الغرقى
ينتظرون يدك لتمتد إليهم من بين الأمواج ، وملايين العطشى محتاجون أن يردوا حوضك
الذي أكرمت به .
فهذه
الآيات الأولى التي بدأت بها الرسالة تعكس التحول العظيم في حياة محمد r من
إنسان عادي ينوء بنفسه بين الجبال ويلوذ بها لعله يجد لحظة صفاء بين مكدرات الواقع
بشركه وظلمه ، إلى سراج منير ومنارة هدى وعَلَم هداية للبشرية بأكملها إلى قيام
الساعة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق