الأحد، 10 يونيو 2012

من الهروب في الجبال إلى حمل المشعل الأعظم في الكون


من الانكفاء الذاتي إلى الانطلاق الرسالي  .
 تذكر كتب التفسير أن أول ما نزل من القرآن بعد بداية سورة العلق ، بداية سورة المزمل والمدثر اللتين نزلتا بعد ردة فعل النبي r   لظاهرة الوحي الجديدة عليه ؛ حيث ذهب لأهله قائلاً زملوني دثروني ؛ أي غطوني ، فجاءت الآيات لتبين له أن الوقت ليس وقت عزلة وهروب وتغطية ، بل هو بداية رسالة ستأخذ من النبي جل وقته وطاقته ، فالرحمة العالمية لا ينبغي لها أن تنام أو تتغطى أو تنعزل والعالم حولها يحترق بضلالاته وكفره وظلاماته ؛ لذا  : } يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ،  قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ،  نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ،  أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ،  إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً ،  إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً ،  وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً . { ([1])  وهذه الآيات الكريمة حددت طبيعة ليل نبي الرحمة ، إن أكثره  قيام وتضرع وتبتل بين يدي الله سبحانه وتعالى لكي يستخلص قلبه ويصفو بين يدي ربه ، أما النهار فإن له فيه سبحاً طويلاً  ، هذا السبح الطويل بينته الآيات : } يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ،  قُمْ فَأَنذِرْ ،  وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ،  وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ،  وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ،  وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ،  وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ . { ([2])  فليلك يا محمد  قيام ودعاء و نهارك دعوة لدين الله و إنذار وتكبير لرب العالمين الذي امتن عليك برسالة النور والرحمة ؛ لذا قم يا نبي الرحمة  من فراشك ،وانهض لرسالتك وأنقذ البشرية مما ينتظرها بسبب كفرها وغيها ، قم الليل إلا قليلاً بين يدي ربك ، قم فأنذر وربك فكبر ، قم برسالة الطهر والفضيلة واجتهد لأجلها واصبر في سبيلها فالحمل المنوط بك عظيم ، فإنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً ، وأنت الوحيد في الأرض المؤهل له ، قم لأعظم رسالة وأجل أمانة عرفتها البشرية ، فملايين البشر منوطون بجهدك ، وملايين الغرقى ينتظرون يدك لتمتد إليهم من بين الأمواج ، وملايين العطشى محتاجون أن يردوا حوضك الذي أكرمت به .
 فهذه الآيات الأولى التي بدأت بها الرسالة تعكس التحول العظيم في حياة محمد r   من إنسان عادي ينوء بنفسه بين الجبال ويلوذ بها لعله يجد لحظة صفاء بين مكدرات الواقع بشركه وظلمه ، إلى سراج منير ومنارة هدى وعَلَم هداية للبشرية بأكملها إلى قيام الساعة .
د. محمد المبيض                         كتابه نبي الرحمة                                   حقوق الطبع محفوظة 

([1]) المزمل : الآيات 1- 9  
([2])  المدثر : الآيات 1-7 

ليست هناك تعليقات: