رسالة
الرحمة بدأت بكلمة اقرأ
كان النبي محمد r يأوي
إلى غار حراء ليتأمل في ملكوت السماء ،
وليهيئ قلبه لمدارك الإلهام تأسياً فطرياً بجده إبراهيم عليه السلام ، بيد أن
الصوت الخالد هذه المرة كان أعمق وأوثق من كل الإلهامات التي تطرق قلوب المرهفين
وأصحاب القلوب الشفافة ، صوت يختلف رنينه وهويته عن كل الإلهامات ، فهو وحي لا
إلهام ، وأمين السماء يتحدث مباشرة من خلاله لا خواطر تسنح للقلوب وتردد عبرها ،
كانت تلك اللحظة النورانية هي لحظة الحسم في حق محمد r ، وآن له
أن يعرف أنه المدخر لحمل كلمة السماء وهو الذي بشرت به الأنبياء والكتب قبل مجيئه
، وهو من سيحمل نور الهداية للبشرية كاملة إلى قيام الساعة ، وهو المبعوث رحمة
للعالمين .
بدأت رسالته خلال لقائه مع أمين السماء جبريل ،
بهذا الحوار الذي يرويه عن نفسه قائلاً : فقال : اقرأ . قلت ما أنا بقارئ ؟ فغطني –
أي ضمني بقوة – حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني وقال : اقرأ . قلت ما أنا بقارئ ؟
فغطني الثانية ، ثم قال اقرأ . قلت ما أنا بقارئ ؟ فغطني الثالثة : وقال : اقرأ ،
قلت : وما اقرأ ، فقال : } اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي
خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَق
، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ
مَا لَمْ يَعْلَمْ . { ([1])
هذا اللقاء وتلك اللحظة تعتبر أعظم لحظة مرت
بالأرض في تاريخها الطويل ، وهذا الحدث هو من أعظم الأحداث المفصلية التي مرت
بالبشرية ، وحقيقته أن الله سبحانه وتعالى قد تكرم في عليائه فأراد أن يرحم
البشرية فكرمها باختيار واحد منها ليكون ملتقى نوره الإلهي ومستودع حكمته ومهبط
كلماته ، ومظهر من أسمى مظاهر رحمته .
بهذا الحدث الجلل اختارت السماء مصطفاها
ومختارها بين البشر ، وبكلمة اقرأ بدأت رسالة الرحمة العالمية ، ولم تبدأ بكلمة
صل ، أو صم ، أو تعبد ، لتؤكد على مبدأ
أساس قامت عليه رسالة محمد r ، وهو أنها رسالة علم
وحضارة وليست ديناً كهنوتياً تكريسياً يعتني بالجانب التعبدي فقط ، بل رسالة ارتكزت
على العلم جوهر الحضارة ، وحضارة لم تسوغها القدرة البشرية القاصرة بل رسمتها
السماء وقدرها العليم الخبير بحال من خلقهم ، إنها حضارة بكل المعايير التي تقاس
بها الحضارات ، تعنى بالروح ولا تغفل الجسد ،
تصلح الدنيا وتهيئ الناس للآخرة ، تصلح بين الناس وتردهم إلى خالقهم ،
وتصبغهم بفطرتهم التي خلقوا عليها ، تزكي
أخلاقهم وتسمو بها وترقي مداركهم ، تيسر
حياتهم وتقوم سلوكهم ، تحرر عقولهم وتطلقها
في الأفاق وتؤهلها للاستفادة من خزائن الله وموجوداته وتزودها بالعلم
وأدواته بعيداً عن الأوهام والخرافات .
بعبارة أخرى إن هذه البداية لتشير إلى أن
محمداً قد بعث لينشئ عالماً جديداً حضارياً يعيد للإنسان إنسانيته بعد أن كاد
يفقدها ويؤهله للخلافة الحقة في الأرض ؛
إنها بداية أشادت بالقلم وخطره والعلم ومنزلته في بناء الشعوب والأمم .
يعقب وزير خارجية رومانيا السابق كونستانس جيورجيو
على تلك البداية القرآنية بقوله : « لا يجد المرء في أي من الكتب السماوية
اهتماماً بالمعرفة كما يجده في القرآن ، ولا يمكن أن يعادل مفهوم المعرفة والعلم
في الدين الإسلامي ما في أي دين آخر ... وإنني أهنئ المسلمين بنزول الآيات الأولى
التي تحض على كسب المعرفة ، ولهذا اعتمد العلماء المسلمون القدماء على هذه السورة
ليعتبروا العلم من واجبات الدين ، ويرون أن على كل مسلم يصلي ويصوم أن يشتغل
بالعلم . » ([2])
بدأت الرسالة بكلمة اقرأ ، واختارت لهذه المهمة
رجلاً لا يعرف القراءة والكتابة ليستيقن الناس أن هذه الحضارة المقبلة هي من
السماء فقط ، وذلك الأمي المصطفى لن يكون بل محال أن يكون مخترعاً لهذا الدين
الحضاري ، إنما هو مبلغ عن الله وناقل لعطاياه من السماء إلى الأرض ، يقول الكونت الفرنسي هنري دي كاستري أحد حكام
الجزائر السابقين في كتابه ( الإسلام تأثرات ومباحث ) : « إن أول مسألة دار
البحث فيها – أي بينه وبين علماء فرنسا- إنما هي صدق النبي محمد في رسالته ، وقد
قلنا أن ذلك الصدق متفق عليه بين المستشرقين والمتكلمين على التقريب ، ومعلوم أنه
لا ارتباط بين هذه المسألة وبين كون القرآن كتاباً منزلاً من عند الله ، ولسنا
بحاجة في إثبات صدق محمد إلى أكثر من إثبات أنه كان مقتنعاً بصحة رسالته ، وحقيقة
نبوته .. وأما مسألة الوحي والقرآن فكيف يتأتى أن تصدر تلك السور والآيات عن رجل
أمي يعجز فكر بني الإنسان عن الإتيان بمثلها لفظاً ومعنى . » ([3])
د. محمد المبيض كتابه نبي الرحمة حقوق الطبع محفوظة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق