الأحد، 10 يونيو 2012

رسالة اقرأ ( أسرار البداية )


رسالة الرحمة بدأت بكلمة اقرأ
كان النبي محمد r يأوي إلى  غار حراء ليتأمل في ملكوت السماء ، وليهيئ قلبه لمدارك الإلهام تأسياً فطرياً بجده إبراهيم عليه السلام ، بيد أن الصوت الخالد هذه المرة كان أعمق وأوثق من كل الإلهامات التي تطرق قلوب المرهفين وأصحاب القلوب الشفافة ، صوت يختلف رنينه وهويته عن كل الإلهامات ، فهو وحي لا إلهام ، وأمين السماء يتحدث مباشرة من خلاله لا خواطر تسنح للقلوب وتردد عبرها ، كانت تلك اللحظة النورانية هي لحظة الحسم في حق محمد r ، وآن له أن يعرف أنه المدخر لحمل كلمة السماء وهو الذي بشرت به الأنبياء والكتب قبل مجيئه ، وهو من سيحمل نور الهداية للبشرية كاملة إلى قيام الساعة ، وهو المبعوث رحمة للعالمين .
بدأت رسالته خلال لقائه مع أمين السماء جبريل ، بهذا الحوار الذي يرويه عن نفسه قائلاً : فقال : اقرأ . قلت ما أنا بقارئ ؟ فغطني – أي ضمني بقوة – حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني وقال : اقرأ . قلت ما أنا بقارئ ؟ فغطني الثانية ، ثم قال اقرأ . قلت ما أنا بقارئ ؟ فغطني الثالثة : وقال : اقرأ ، قلت : وما اقرأ ، فقال : } اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ،  خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَق ،  اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ،  الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ . { ([1])
هذا اللقاء وتلك اللحظة تعتبر أعظم لحظة مرت بالأرض في تاريخها الطويل ، وهذا الحدث هو من أعظم الأحداث المفصلية التي مرت بالبشرية ، وحقيقته أن الله سبحانه وتعالى قد تكرم في عليائه فأراد أن يرحم البشرية فكرمها باختيار واحد منها ليكون ملتقى نوره الإلهي ومستودع حكمته ومهبط كلماته ، ومظهر من أسمى مظاهر رحمته .
بهذا الحدث الجلل اختارت السماء مصطفاها ومختارها بين البشر ، وبكلمة اقرأ بدأت رسالة الرحمة العالمية ، ولم تبدأ بكلمة صل  ، أو صم ، أو تعبد ، لتؤكد على مبدأ أساس قامت عليه رسالة محمد r ، وهو أنها رسالة علم وحضارة وليست ديناً كهنوتياً تكريسياً يعتني بالجانب التعبدي فقط ، بل رسالة ارتكزت على العلم جوهر الحضارة ، وحضارة لم تسوغها القدرة البشرية القاصرة بل رسمتها السماء وقدرها العليم الخبير بحال من خلقهم ، إنها حضارة بكل المعايير التي تقاس بها الحضارات ، تعنى بالروح ولا تغفل الجسد ،  تصلح الدنيا وتهيئ الناس للآخرة ، تصلح بين الناس وتردهم إلى خالقهم ، وتصبغهم  بفطرتهم التي خلقوا عليها ، تزكي أخلاقهم وتسمو بها  وترقي مداركهم ، تيسر حياتهم وتقوم سلوكهم ، تحرر عقولهم وتطلقها  في الأفاق وتؤهلها للاستفادة من خزائن الله وموجوداته وتزودها بالعلم وأدواته بعيداً عن الأوهام والخرافات . 
بعبارة أخرى إن هذه البداية لتشير إلى أن محمداً قد بعث لينشئ عالماً جديداً حضارياً يعيد للإنسان إنسانيته بعد أن كاد يفقدها  ويؤهله للخلافة الحقة في الأرض ؛ إنها بداية أشادت بالقلم وخطره والعلم ومنزلته في بناء الشعوب والأمم  .
يعقب وزير خارجية رومانيا السابق كونستانس جيورجيو على تلك البداية القرآنية بقوله : « لا يجد المرء في أي من الكتب السماوية اهتماماً بالمعرفة كما يجده في القرآن ، ولا يمكن أن يعادل مفهوم المعرفة والعلم في الدين الإسلامي ما في أي دين آخر ... وإنني أهنئ المسلمين بنزول الآيات الأولى التي تحض على كسب المعرفة ، ولهذا اعتمد العلماء المسلمون القدماء على هذه السورة ليعتبروا العلم من واجبات الدين ، ويرون أن على كل مسلم يصلي ويصوم أن يشتغل بالعلم . » ([2])  
بدأت الرسالة بكلمة اقرأ ، واختارت لهذه المهمة رجلاً لا يعرف القراءة والكتابة ليستيقن الناس أن هذه الحضارة المقبلة هي من السماء فقط ، وذلك الأمي المصطفى لن يكون بل محال أن يكون مخترعاً لهذا الدين الحضاري ، إنما هو مبلغ عن الله وناقل لعطاياه من السماء إلى الأرض ،  يقول الكونت الفرنسي هنري دي كاستري أحد حكام الجزائر السابقين في كتابه ( الإسلام تأثرات ومباحث ) : « إن أول مسألة دار البحث فيها – أي بينه وبين علماء فرنسا- إنما هي صدق النبي محمد في رسالته ، وقد قلنا أن ذلك الصدق متفق عليه بين المستشرقين والمتكلمين على التقريب ، ومعلوم أنه لا ارتباط بين هذه المسألة وبين كون القرآن كتاباً منزلاً من عند الله ، ولسنا بحاجة في إثبات صدق محمد إلى أكثر من إثبات أنه كان مقتنعاً بصحة رسالته ، وحقيقة نبوته .. وأما مسألة الوحي والقرآن فكيف يتأتى أن تصدر تلك السور والآيات عن رجل أمي يعجز فكر بني الإنسان عن الإتيان بمثلها لفظاً ومعنى . » ([3])    
د. محمد المبيض                  كتابه نبي الرحمة        حقوق الطبع محفوظة   


([1]) العلق : الآيات ( 1-5)
([2]) جيورجيو : نظرة جديدة في سيرة رسول الله ( 60 وما بعدها )
([3]) انظر عبد الوهاب : محمد رسول الله في نظر فلاسفة الغرب ومشاهير علمائه وكتابه ( 26 وما بعدها ) 

ليست هناك تعليقات: