نبي الرحمة
ورعاية حقوق الطفل
يمكن بيان منهج النبي r في رعاية الطفل و مراعاة حقوقه من خلال البنود
التالية :
أولاً : حرص النبي r على معايير اختيار الزوجين رحمة بالطفل ورعاية
له .
يعتبر
الزوجان الأساس للأسرة واللبنة الأولى في بنائها ، وحسن اختيار الزوجين لبعضهما
البعض ينعكس بآثار طيبة على الطفل ، ومقدمة ضرورية للنسل الصالح وتظهر آثاره بشكل
واضح من الناحية الوراثية أو من الناحية البيئية ؛ لذا حرص النبي r على وضع معايير للاختيار ، وذلك رعاية للطفل
ورحمة به قبل نشوئه ومن ذلك قوله r : « تُنْكَحُ
الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا،
فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ ، تَرِبَتْ يَدَاكَ » ([1])
«
إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ،
إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ » ([2]) والمعلوم أن حسن الاختيار يقصد به من الدرجة
الأولى رعاية حق الطفل يدل على ذلك قوله r « تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ ، وَانْكِحُوا
الْأَكْفَاءَ وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ » ([3])
ثانياً : تأخيره إقامة حدود الله سبحانه وتعالى رحمة
بالجنين والطفل :
من ذلك ما ورد في حق الغامدية عندما زنت وجاءت
النبي r لكي يطهرها فقالت « يَا
رَسُولَ اللَّهِ : طَهِّرْنِي . فَقَالَ : وَيْحَكِ ارْجِعِي ، فَاسْتَغْفِرِي
اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ . فَقَالَتْ : أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تُرَدِّدَنِي كَمَا
رَدَّدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ . قَالَ : وَمَا ذَاكِ ؟ قَالَتْ : إِنَّهَا
حُبْلَى مِنَ الزِّنَى . فَقَالَ : آنْتِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . فَقَالَ : لَهَا
حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِكِ ، قَالَ
فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ ، قَالَ : فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى r ، فَقَالَ : قَدْ
وَضَعَتِ الْغَامِدِيَّةُ . فَقَالَ : إِذًا لَا نَرْجُمُهَا وَنَدَعُ وَلَدَهَا
صَغِيرًا ، لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ
: إِلَيَّ رَضَاعُهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، قَالَ : فَرَجَمَهَا . » ([4])
وفي رواية أخري } فَلَمَّا وَلَدَتْ
، أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ ، فَقَالَتْ : هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ ، فَقَالَ : لَهَا
ارْجِعِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ . فَجَاءَتْ بِهِ وَقَدْ فَطَمَتْهُ ،
وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ يَأْكُلُهُ .{ ([5])
فالأثر
السابق يبرز مدى رحمة النبي r ورعايته
للأطفال حتى ولو كانوا من سفاح أو زنا ، بل يحترم إنسانيتهم ووجودهم ؛ لذا نجده قد
أخر حد الله سبحانه وتعالى رعاية لجنين الغامدية ، ولم يقم الحد حتى تأكد من أن الطفل
قد بدأ في مرحلة الاستغناء عن أمه بعد الرضاعة ووقع في أيدي أمينة ، ولولا أن حدود
الله سبحانه وتعالى لا تقع فيها الشفاعة لكان طفلها أول الشافعين لها عند رسول
الله r .
ثالثاً : رحمته
بالطفل والجنين من خلال التخفيف على أمه في العبادات .
ومن ذلك ترخيصه للحامل
والمرضع في الإفطار في رمضان إذا خافتا على الطفل والجنين الهلاك أو التلف يقول
النبي r :
« إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ
شَطْرَ الصَّلَاةِ ، أَوْ نِصْفَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمَ ، عَنِ الْمُسَافِرِ
وَعَنِ الْمُرْضِعِ ، أَوِ الْحُبْلَى ، وَاللَّهِ لَقَدْ قَالَهُمَا
جَمِيعًا،أَوْ أَحَدَهُمَا » ([6])
رابعاً :
عنايته ورحمته بالطفل منذ ميلاده .
المعلوم أن الشيطان لعنه الله يحرص على غواية
الإنسان أو السيطرة عليه منذ اللحظة الأولى لخروجه إلى الدنيا ، وذلك من خلال نخسه
أو مسه كما ورد في الروايات فيستهل الطفل صارخاً بسبب نخسة الشيطان (_ ) ، ولعل
لتلك النخسة آثارها على مستقبل الطفل ، بحيث تكون أول أشكال النقمة الشيطانية
بالإنسان ومظهراً من مظاهر الهيمنة عليه .
وكما أن
الشيطان قد حرص على اللحظة الأولى ، كذلك نبي الرحمة حرص على اللحظة الأولى لخروج
الإنسان للدنيا لكي تتولاه رحمة الله بدلاً من لعنة الشيطان ، تقول عائشة رضي الله
عنها : « كَانَ يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ
للنبي r فَيُبَرِّكُ
عَلَيْهِمْ وَيُحَنِّكُهُمْ » ([7]) قال النووي : « وفيه استحباب حمل الأطفال إلى أهل الفضل
للتبرك بهم , وسواء في هذا الاستحباب المولود في حال ولادته وبعدها . وفيه : الندب
إلى حسن المعاشرة واللين والتواضع والرفق بالصغار وغيرهم . » ([8]) والتبريك يراد به الدعوة للطفل بحياة
مباركة ، ومن مظاهر عنايته بالطفل أيضاً
ما رواه أبو رَافِعٍ t قَالَ : « رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ r أَذَّنَ فِي أُذُنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ
حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ بِالصَّلَاةِ . » ([9]) وفي روايات أخرى أشارت للأذان في الأذن اليمنى
والإقامة في الأذن اليسرى ، وهذا من وفور رحمته بالطفل وحرصه على دفع الشيطان عنه
فالثابت أن الشيطان يفر من الأذان والإقامة ؛ لذا راغمه النبي r بهما
لكي يدفعان الشيطان الذي كان يرصده حين يولد ، ولكي يكون أول ما يقرع سمعه كلمة
التوحيد
خامساً : الترخيص للمرأة أن تأخذ من مال زوجها غير المحجوب
بدون علمه لرعاية أطفالها .
رخص النبي r للمرأة
أن تأخذ من مال زوجها إذا كان يمسك عن الإنفاق على أولاده وقد قيد النبي r هذا الأخذ بالمعروف واستثناه من السرقة ومن ذلك
أن هند جاءت للنبي r وقالت له :
« يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ
أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي
إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَقَالَ خُذِي مَا يَكْفِيكِ
وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ » ([10])
سادساً :
إثبات الحقوق اللازمة لتحقيق حياة سوية للأطفال .
من نظر
للرسالة المحمدية يجد أنها أثبتت للطفل حقوقاً متعددة تكفل له الحياة الكريمة ، من
هذه الحقوق حق الرضاع ، وقد أوجبت على الأم إرضاع طفلها اللبأ اللازم له في بداية
حياته ، ثم أوجبت على الأب رعاية حق الرضاع ونفقاته ؛ وإن فقد الأب تولى الأقرب
هذا الحق وفق منظومة أولويات قرابة تلزم اللاحق إن فقد السابق حتى لا يضيع حق
الطفل ، وكذلك أثبتت الرسالة للطفل حق الحضانة وفق الأنسب في القيام بهذا الحق بما
يتناسب مع الطفل ، ومراحل حياته ، كذلك أثبتت له حق النفقة على الغير ، وأثبتت له
حقه في الميراث حتى لو كان جنيناً في بطن أمه ، ومن نظر إلى تفاصيل الحقوق السابقة
في الشريعة الإسلامية يرى مدى اهتمام الإسلام برعاية حقوق الطفل ، ويرى الدقة العجيبة في الالتزامات وفق منظومة
القرابة ، والتي تحرص من الدرجة الأولى على عدم تضييع حق الطفل أو تغييبه في جميع
الأحوال .
سابعاً : رحمته
في الأطفال بإثبات حقهم في النسب .
حرص النبي r على
انتماء الطفل لأهله وأسرته ، وذلك رعاية لحقه وتكريماً له من أن يشبه الحيوانات
والسوائم ومن ذلك قوله r : « أَيُّمَا
امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ ، فَلَيْسَتْ مِنَ
اللَّهِ فِي شَيْءٍ ، وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ
جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ ، احْتَجَبَ اللَّهُ مِنْهُ ،
وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ » ([11]) ويعتبر حق النسب من آكد الحقوق في الإسلام
وتتجلى خطورته في أن فواته أو ضياعه ، أو
الشك في انتساب النسل إلى أصله يفضي إلى انقطاع تعهد الأبناء من قبل الآباء ، أو
يزيل من الأصل الميل الجبلي والفطري الباعث على الذب عن فرعه ، والقيام عليه بما
فيه بقاؤه أو صلاحه . وكذلك ثبوت هذا الحق يترتب عليه حقوق مختلفة مثل: حق الرضاع
والحضانة والنفقة والإرث ، إضافة إلى أنه يصون الطفل من الضياع ، ويحميه من
التشرد ،
ويجنبه التعيير بكونه ولد زنى ….إلخ ([12])
([3])
أخرجه ابن ماجة في النكاح [ انظر سنن ابن
ماجة (1/633) ] ؛ والحاكم : المستدرك ( 2 /167) وقد قال الحاكم : صحيح على شرط
الشيخين ولم يخرجاه ، ولم يوافقه الذهبي ؛ لأن في إسناده الحارث وهو متهم ؛ وقد ذكر ابن حجر أن الحاكم صحح الحديث ، ولم
يعقب عليه ، وذكر أن له إسناداً آخر عند أبي نعيم ، وعقب بقوله : ويقوي أحد
الإسنادين بالآخر [ انظر فتح الباري (9/28) ]
(_ ) ٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ t أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : « مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا نَخَسَهُ
الشَّيْطَانُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ نَخْسَةِ الشَّيْطَانِ إِلَّا ابْنَ
مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ، ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ وَإِنِّي أُعِيذُهَا
بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [ أخرجه مسلم برقم 4363]
(_ ) قد يستغرب البعض ويقول ما قيمة الأذان والإقامة في طفل معجم لا
يعقل ، وهذا من جهل البعض في الطبيعة الإنسانية وأسرارها ولا يستغرب من وصول أثر
الآذان والإقامة لقلب الطفل وتأثره بها ، وقد ورد في دراسات تربوية معاصرة أن
الإنسان يخزن 95% من القيم والمعتقدات التي يحملها في السنوات السبع الأولى ، وفي
دراسة أخرى تشير إلى أن الإنسان يستمر يعاني من ثلاثين إلى أربعين سنة بسبب
الخمس سنوات الأولى في حياته ؛ فإذا كانت هذه نتائج التربية المعاصرة والتي
جعلت للسنوات الأولى في حياة الطفل الأثر الأكبر في مستقبله ؛ لذا ما المانع من أن
تكون اللحظة الأولى من حياة الطفل هي الأكثر تأثيراً على مستقبله ، وما جهله علماء
التربية علمه نبي الرحمة من خلال الوحي ، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق