معالجة الخطر الداخلي في الصف المسلم .
أفرزت الهجرة النبوية ، وما
آلت إليه من انتقال السلطة السياسية في المدينة للمسلمين فئة جديدة كانت تظهر
الإسلام وتبطن الكفر ، وتتلون بلون المسلمين بظاهرها ، وتكيد لهم في الخفاء ، هذه
الظاهرة هي ظاهرة النفاق ، وهي أشبه بالطابور الخامس في مجتمعاتنا المعاصرة ،
وكانت في بدايتها تمثل شريحة كبيرة في المجتمع المدني ، وبعض أفرادها كان لهم
مكانة مرموقة كعبد الله بن أبي سلول الذي
يعتبر من أبرز شخصيات المدينة المنورة ، وأكابر رجالها ، وكان أهل المدينة قبل
إسلامهم يهيئونه ليكون ملكاً عليهم .
هذه الفئة كانت التحدي الأكبر
للمسلمين ؛ وكانوا أشبه بمنظمة سرية تسعى لهدم الكيان الجديد من الداخل ، ولا تُرى
جهودهم من ظاهر أعمالهم ، بل هو مكر الليل والنهار والتآمر الخفي ، واستغلال
الأحداث وإشعال الفتن ، وتثبيط الهمم من داخل الفئة المسلمة .
وهذا الخطر الداخلي تعاطى معه
النبي r بحكمة
بالغة ، وبسماحة منقطعة النظير ، وبخطوات حساسة تمنع من تفكك المجتمع الجديد أو
تشويه صورته أو تستدرجه للاستنزاف الداخلي المفضي للعنف بين شرائح المجتمع ، ولعل
أهم الخطوات التي قام بها يشاركه بذلك القرآن :
1- كشف
ظاهرة النفاق وبيان خطورتها ، وعواقبها على أهلها ، وإبراز أهم صفات المنافقين
ليحذر المجتمع منهم ، وينتبه أفراده إلى أولئك الأعداء الذين يتلونون بلون
المسلمين وينتسبون لهم ، وكان لهذه الخطوة أثرها في فضح المنافقين وتقليل خطرهم ،
وفي نفس الوقت كانت رادعة للكثيرين منهم مما حذا بهم للعودة الصادقة للصف المسلم ،
ويلحظ على هذه الخطوة أنها اقتصرت على بيان صفات المنافق وخصاله دون التصريح باسمه
، وذلك لرأب الصدع الداخلي ، و إبقاء الباب مفتوحاً للتوبة ويلتقي مع المنهجية
العامة للرسالة المحمدية التي تهتم بالستر وعدم التشهير .
2- الإحسان
لهذه الفئة وملاطفتها لعلها تعود إلى حظيرة الإسلام ، وتجنب أي صدام مع أطرافها ،
والصبر على فلتاتها وهذا الإحسان رافق النبي r في كل المرحلة المدنية ، وكان له الأثر في تحجيم هذه الظاهرة
تدريجياً بالوسائل السلمية .
3- تجنب
تصفية أي فرد منها مهما عظم خطره ، وذلك حفاظاً على صورة الإسلام وسماحة تعاليمه ،
وكان شعار النبي r عندما كان يعرض عليه
تصفية لأي واحد من المنافقين : « لا . لئلا يقول الناس أن محمداً يقتل أصحابه . »
وهذا النهج يبرز وضوح ثقافة السلامة في المعالجة النبوية لظاهرة النفاق
4- نلحظ
أن النبي r قد أبدى
سماحة عالية في تعامله مع المنافقين ، فهذا عبد الله بن أبي سلول لم يترك مدخلاً
للكيد بالرسول أو الاستهانة به إلا ولجه ، ومن ذلك تصريحه بإخراج النبي r ذليلاً من
المدينة ، وذلك عندما قال : « لئن رجعت
إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . » فهذه المواقف المخزية والجريئة من أبي
سلول قد خلقت تذمراً شديداً من المسلمين حتى من عشيرته وأقرب الناس إليه ، ويأتي
ابنه عبد الله لرسول الله r وكان صادق الإسلام ،
ويعرض عليه أن يقتل أباه ، فيرفض النبي r طلبه
قائلاً : بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا
، بل نجده يستمر في ملاطفته حتى
اللحظة الأخيرة في حياته ، و يخرج ويصلي عليه مما ترتب عليه معاتبة السماء له على
تصرفه ذلك .
5- اغتنام
أي فرصة تفتح المجال لتوبة المنافقين وعودتهم للصف المسلم من ذلك : رأس النفاق ابن
سلول عند دنو وفاته أرسل للنبي r لكي يزوره
، فلبى النبي r الدعوة ،
وجلس إليه وعاتبه ، فقال له ابن سلول : لم أرسل إليك لتؤنبني ، وإنما لتستغفر لي ،
فاستغفر له النبي r ، وقيل
أنه طلب من النبي r قميصه
ليكفن به ، وورد أن هذا الطلب بلغ النبي r عن طريق
ابنه ، فأعطاه النبي r قميصه
ليكفن به ، وشارك في دفنه وصلى عليه ، فعاتب بعض الصحابة النبي r على موقفه
من ابن سلول ، فقال النبي r : وما يغني عنه قميصي
، والله إني لأرجو أن يسلم بذلك ألف رجل من قومه ، ([1]) أما الاستغفار فقد خيرني الله فيه : « اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ
اللَّهُ لَهُمْ » ([2]) وسأزيده على
سبعين ([3])
، وورد أن أكثر رجال الخزرج ممن كان ولاؤهم لابن سلول عندما رأوا زعيمهم يطلب
استغفار النبي r وقميصه
ليكفن به استشعروا مصداقية النبي r وغثائية مزاعم ابن
سلول في حقه ، وعندما قابلهم النبي r بهذه
الإيجابية مع زعيمهم الذي طالما آذى النبي r شعروا
بجلالة هذه الرسالة وسموها فدخلوا في دين
الله وعادوا لحظيرة الإسلام .
هذه أهم الخطوات التي قام بها النبي r لحسم ظاهرة النفاق في المجتمع ، ونلحظ عليها أنها كانت تتسم بمرونة امتزجت
بالحكمة وتوجت بالسماحة والرحمة وما أن انتهت السنة التاسعة للهجرة حتى دخلت ظاهرة
النفاق في طور التلاشي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق