السبت، 9 يونيو 2012

كمال زهد النبي عليه السلام .



كان النبي محمد r زاهداً في الدنيا متقللاً منها ، معرضاً عن زهرتها ، قانعاًَ بالكفاف منهاً ، مقتصراً من نفقته وملبسه على ما تدعو إليه الضرورة يلبس البرد الغليظة ، ويقسم حلل الديباج على أصحابه ، فراشه من أدم حشوه ليف ، فإذا قيل له : ألا نبسط تحتك ألين منه ، يقول « مالي وللدنيا ، إنما مثلي ومثل الدنيا مثل راكب سار في يوم صائف ، فقال تحت شجرة ثم راح وتركها  » . ([1])
يدخل عليه عمر بن الخطاب فيهوله ما رأى فيقول واصفاً حال النبي r  : «  .. وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ ، وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ ،  فَبَكَيْتُ فَقَالَ : مَا يُبْكِيكَ ؟ فَقُلْتُ :  يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ ! فَقَالَ :  أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمْ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ  . » ([2])
وكان  يقنع باليسير من الدنيا بل يدعو بحصوله  : «   اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا . » ([3])  وكان يبيت جائعاً طاوياً ويصبح صائماً خاوياً ، وما أكل على خوان قط ولا شبع من خبز شعير يومين متواليين ، يقول أبو هريرة : «   مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ  r  مِنْ طَعَامٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى قُبِضَ . » ([4]) وتقول عائشة رضي الله عنها : «   مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ  . » ([5])    و عَنْ قَتَادَةَ قَالَ : « كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ  t  وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ . قَالَ : كُلُوا فَمَا أَعْلَمُ النَّبِيَّ  r  رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ وَلَا رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ . » ([6]) وتقول عائشة رضي الله عنها : «  إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ  r  نَارٌ فَقُلْتُ :  مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ ؟ قَالَتْ : الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ  r  جِيرَانٌ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ لَهُمْ مَنَائِحُ – أي أعنز- وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ  r  مِنْ أَبْيَاتِهِمْ فَيَسْقِينَاهُ » ([7]) ويقول عتبة بن غزوان : «   وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ  r  مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ حَتَّى قَرِحَتْ أَشْدَاقُنَا  » ([8])  تأتيه فاطمة بكسرة خبز ، فيقول لها : ما هذه الكسرة يا فاطمة ؟ قالت : قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى آتيك بهذه الكسرة ، فقال r : «  هَذَا أَوَّلُ طَعَامٍ أَكَلَهُ أَبُوكِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ . » ([9]) ويحكي عن نفسه قائلاً : « لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ ،وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ ،وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَـوْمٍ وَلَيْـلَةٍ وَمَـا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ » ([10])
وكان النبي r لا يقرن في ملبسه ومأكله بين شيئين ، يخصف نعله بيديه ويرقع ثوبه ،  ولم يخلف وراءه درهما ولا ديناراً ولم يترك إلا سلاحه وبغلته ، وقبض ودرعه مرهونة عند رجل يهودي على ثلاثين صاعاً أخذها رزقاً لعياله .
والعجيب في زهد النبي r وفقره أنه كان فقر اختيار لا اضطرار ، وقد عرض الله عليه ليجعل له بطحاء مكة ذهباً ، فقال : «  لَا يَا رَبِّ وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا ،  وَأَجُوعُ يَوْمًا  ،  فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ ، وَإِذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ . » ([11]) وقد جاءته هدايا أهل التيجان وحملت إليه الجزية والصدقات وانهالت عليه الأموال ، وسيقت له الدنيا بمناعمها فما استأثر منها بدرهم ولا دينار ، بل أنفق كل ما وصل إليه في الخير ، ورد به فاقة من مسهم الضر ، وفرقه في مصالح المسلمين .
وبالرغم من بلوغه السؤدد في الملك إلا أنه لم يطمح إلى ما تطمح إليه النفوس من رتبة أو دولة أو سلطان ، ولم يكن راغباً في ذكر أو شهرة ، وبهذه النفسية الزاهدة عن الدنيا والراغبة في الآخرة  نال النبي r  احترام العرب وتوقيرهم مع ما كان فيهم من الجفاء والغلظة والتواء الشكيمة ، واستطاع أن يقودهم ويقاتل بهم ثلاثة وعشرين عاماً ، وهم له طائعون محبون منقادون ، ولو جاءهم كسرى وقيصر ما أصاب من طاعتهم مقدار ما ناله محمد r في ثوبه المرقع ونعله الخصيف وكذلك تكون العظمة  . 


([1]) أخرجه ابن حبان برقم 6352 [ صحيح ابن حبان ( 14/265) ]
([2]) أخرجه مسلم برقم 1479 [ صحيح مسلم ( 2/1108) ]
([3]) أخرجه مسلم برقم 1055 [ صحيح مسلم ( 4/2281) ]
([4]) أخرجه البخاري برقم 5059 [ البخاري ( 5/2055) ]
([5]) أخرجه البخاري برقم 5107 [ البخاري ( 5/2068) ]
([6])أخرجه البخاري برقم 5105 [ البخاري ( 5/2068) ]
([7]) أخرجه مسلم برقم 2972 [ صحيح مسلم ( 4/2283) ]
([8]) أخرجه مسلم برقم 2967 [ صحيح مسلم ( 4/2278) ]
([9]) أخرجه أحمد برقم 13246 [ المسند ( 3/213) ] ؛  قال الهيثمي : رواه أحمد والطبراني ورواتهما ثقات [ مجمع الزوائد ( 10/312) ]
([10]) أخرجه الترمذي برقم 2472 ، وقال حسن صحيح [ السنن ( 4/645) ]
([11]) أخرجه الترمذي برقم 2347 ، وقال : حديث حسن [ السنن ( 4/575) ] 

ليست هناك تعليقات: