السبت، 9 يونيو 2012

أهداف الحرب وغاياتها في الإسلام



لم يكن الجهاد أو حروب النبي r خاضعة للمصالح والمآرب الدنيوية ، بل كانت تحكمها أهدافٌ سامية وغايات نبيلة تهيمن على كل سلوك حربي في سيرة النبي r ؛ لذا نجد الإسلام قد عدل عن لفظة الحرب واستخدم مصطلحاً جديداً وهو الجهاد ليؤكد على أن هذه الحروب هي مغايرة لكل حروب البشر التي تحكمها المصالح والأغراض الدنيوية ،  و يمكن استخلاص أهداف القتال وغاياته عند النبي r  من  خلال البنود التالية :
أولاً : دفع العدوان وحسر الظلم وإنقاذ المستضعفين . 
وهذا الهدف واضح من خلال الغطرسة والطغيان الذي مارسته قريش على المسلمين ، وملاحقتها لهم في كل مكان حتى لم تبق مجالاً أمام المسلمين بعد استنفاذ كل الوسائل  إلا بالحسم العسكري معها ومن يناصرها أو سلك مسلكها ، وقد صرحت كثير من الآيات في الدلالة على هذه الغاية منها :
1-     قال الله  سبحانه وتعالى :  «  وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً  »  ([1]) فالآية صريحة بأن القتال سببه هو الدفع عن المستضعفين الذين كانوا يسامون سوء العذاب من مكة ، وغايته هو إنقاذ المستضعفين من سطوتها .
2-     قال الله سبحانه وتعالى :  «  أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ  »  ([2]) والآية صريحة في أن الإذن بالقتال إنما هو لدفع حالة الظلم التي مورست على المسلمين من خلال اضطهادهم وإخراجهم من أرضهم وملاحقتهم في كل مكان .
3-     قال الله سبحانه وتعالى :  «  وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ .  »  ([3])  «  وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ  »  ([4]) هذه الآيات صريحة في أن القتال يدخل ضمن سنة المدافعة ورد اعتداء المعتديـن ، وفيها إشارة إلى حصر القتال مع الفئة المعتدية .
4-     يقول الله سبحانه وتعالى :  «  الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ  »  ([5]) الآية صريحة في أن القتال يراد به عقاب المعتدي وكف عدوانه بمثله دون تجاوز . ([6])

ثانياً : حماية وتأمين الدولة الناشئة ، وتحقيق مكافأة في القوة تكفل حصول المسالمة .
كان قيام نواة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة مصدر استهجان من كل المجتمع القبلي الذي يحيط بها ، وهي من وجه آخر لقمة سائغة لذلك المجتمع الذي تمرس القتال والسلب والنهب ، والاستقواء على الضعيف ، خاصة أن غرابة هذا الكيان الناشئ في معتقداته وقيمه وتحريض سيدة العرب ( مكة) عليه قد فتح شهية كل هذه القبائل للانقضاض على ذلك الكيان ووأده في مهده ، وهذا اقتضى خطوة سريعة عاجلة من النبي r من خلال إعداد جيش وبث سرايا لفرض هيبة المسلمين وحماية بيضتهم ، بل جاءت الآيات الدالة على أن إعداد جيش قوي ليس هدفه الاعتداء بقدر ما هو فرض هيبة وبث الرهبة التي تحول دون الاعتداء على المسلمين ([7]) ، هذه الهيبة هي التي تضمن تحقيق السلم بين المسلمين وغيرهم . يقول الله سبحانه وتعالى :  «  وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ ، وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ، وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ »  ([8])
فالآية صريحة في أن إعداد الجيش له هدفان : الأول تكتيكي وهو بسط الهيبة والثاني استراتيجي وهو تحقيق السلام .
ثالثاً : حماية حرية نشر الدعوة .
 وهذا هدف فرضه طبيـعة المجتمع الذي رفض هذا الدين الجديد وحارب أهله وصادر
حرياتهم ، بل سلبهم حرية الاعتقاد نفسه واقتضى الأمر حماية الرسالة وأهلها ، وحماية حرية نشرها ، وينبغي هنا أن نفرق بين أمرين وهما : حماية نشر الدعوة ، وحماية حرية نشر الدعوة   ، فليس من أهداف الحرب في الإسلام حماية نشر الدعوة ؛ لأن حماية نشر الدعوة بالحروب معناه الإكراه على اعتناق الإسلام ، وهذا مبدأ يرفضه الإسلام جملة وتفصيلاً ، ولو كان الفضل في انتشار الإسلام لسيوف أهله ورماحهم ، لزال سلطانه من القلوب بزوال سلطان أهله .
لكن هدف المسلمين هو حماية حرية الدعوة ؛ أي الباعث على الحرب هو حسر جهود المشركين في الصد عن سبيل الله ومنع الناس من بلوغ الدعوة إليهم ، وإذا لم يوجد صد للرسالة ، فلا تحل الحرب بأي وجه ، وتنطلق الدعوة في بيئتها الطبيعية . ([9])    
وقد جاءت كثير من الآيات الدالة على الفئة المستهدفة في القتال ، منها الآية الأولى في سورة القتال ( محمد ) يقول الله سبحانه وتعالى :  «  الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ   »  ([10]) فالآية السابقة التي تصدرت سورة القتال قد بينت أن الفئة المستهدفة في القتال هي التي جمعت وصفين معاً وهما : الكفر والصد عن سبيل الله ، ثم شرعت الآيات التي بعدها ببيان بعض أحكام القتال مع هذه الفئة ،  وقد  صرحت سورة الأنفال أن هذه الفئة هي التي تقوم بالإنفاق السخي بغرض الصد عن دين الله ومنع انتشار رسالة الإسلام وملاحقة أهله ، يقول الله سبحانه وتعالى :  «  إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً  »  ([11]) وهؤلاء هم كبراء القوم وطواغيتهم من سادة الجاهلية وسدنتها ممن يحشدون الحشود ويجيشون الجيوش للكيد بالمسلمين وقهر دعوتهم وحسرها ومنع الناس أن يتواصلوا معها بالوسائل السلمية ، وقد بينت بعض الآيات بأن هؤلاء لأفعالهم الشنيعة هم المستهدفون في القتال
يقول الله سبحانه وتعالى  :  «  فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ  »  ([12]).
هذه أبرز غايات القتال في رسالة الإسلام ، وكل منصف ينظر بعين الموضوعية يرى وضوح هذه الأهداف في السيرة العملية للنبي r يشير بيجي رودريك ([13] إلى تلك الأهداف بقوله : « الإسلام إذن لرسوله بالجهاد لرفع الظلم والاضطهاد .. ولإزالة العقبات التي تقف في وجه الدعوة للإسلام، تلك الدعوة التي لا تكره أحداً على الدخول في هذا الدين ، وإنما تترك لهم الحرية الكاملة للاختيار لذلك ، وما إن يدخل الناس في الإسلام حتى يتمسكوا فيه ويستميتوا في الدفع عنه،إن الإسلام هو دين السلام: السلام مع الله ومن الناس جميعاً. » ([14])
د. محمد المبيض                        كتابه أخلاقيات الحرب 


([1]) النساء : الآية 75
([2]) الحج : الآيات 39-40
([3]) التوبة : الآية  36
([4]) البقرة : الآية 190
([5]) البقرة : الآية 194
([6]) ابن كثير : تفسير القرآن العظيم ( 1/217) ؛ القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ( 2/360)
([7]) انظر تفصيل نظرية الردع في الإسلام  وأهدافها عند / أبو الوفا : الإعلام بقواعد القانون الدولي والعلاقات الدولية في شريعة الإسلام (10/299 وما بعدها )
([8]) الأنفال : الآيات 60-61  
([9])  انظر خطاب : الرسول القائد ( 40 وما بعدها ) ؛ الديك : المعاهدات في الشريعة الإسلامية والقانون الدولي   ( 20-21)
([10]) محمد : الآية 1
([11]) الأنفال : الآية 36
([12]) التوبة : من الآية 12
([13])  بيجي : شاب هندي، نشأ في ظل الاستعمار البريطاني للهند، وكان نصرانيًا فأسلم في منتصف الأربعينات رغم التربية التبشيرية التي تلقاها على يد النصارى الذين كانوا منتشرين في شبه القارة الهندية.
([14]) انظر خليل : قالوا عن الإسلام ( 288) 

ليست هناك تعليقات: