الأحد، 10 يونيو 2012

أسرار رائعة في مثل الدنيا من الآخرة ( أمر عجيب )


مثل الدنيا والآخرة
عن المستورد  t قال :  قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  r : «  مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ  »  ([1])
شرح المثل
هذا الحديث يسوق لنا صورة تمثيلية تبين النسبة بين الدنيا والآخرة ، فقد نعلم أن الآخرة عظيمة ، وأن الدنيا حقيرة قياساً لها ،  لكن قد لا يحصل عندنا تصور حقيقي لنسبة المفارقة بين الاثنتين ؛ لذا جاء هذا المثل ليبرز لنا مدى المفارقة بينهما ، وقد جاء ضمن صورة حسية قريبة من واقعنا ، فمثل الدنيا من الآخرة كمثل إنسان يذهب إلى البخر العظيم فيضع إصبعه فيه ثم يخرجه وينظر كم حمل من ماء البحر ؛ لعل أقصى شيء أمكن تصوره هو أن يحمل على إصبعه ما يعادل قطرة واحدة من ذلك البحر ، هذه القطرة هي الدنيا ، أما ذلك البحر العظيم الذي لا يدرك منتهاه ولا تحيط بسعته وحدوده الأبصار فهو الآخرة .
ولو نظرنا إلى الدنيا بمجموعها نجد فيها الآلام والآمال ، السعادة والحرن ، الملذات والشدائد والابتلاءات ، النعيم والعذاب .
ومقتضى المثل أن ينظر المرء لكل أشكال النعيم الدنيوي ما عرفه وما لم يعرفه ، ما ذاقه وما لم يذقه ، ما رآه وما لم يره ، ويقول هو بالنسبة لنعيم الآخرة قطرة من بحر .
كذلك ينظر لكل عذابات الدنيا وأشكال الآلام فيها ما ذاقه وما لم يذقه ، وما سمع به أو رآه أو ما لم يسمع وير ، ويقول هو بالنسبة لعذاب الآخرة قطرة في بحر .
وهذه النسبة أحياناً لا يدركها الإنسان لأنه ما رأى نعيم الآخرة ولا عذابها ؛ ولا يوجد بشر في الأمة عنده تصور حقيقي لهذه النسبة إلا محمد r الذي عاين الجنة والنار ، ورأى من آيات ربه الكبرى ؛ لذا كان هذا المثل الذي يشير إلى تلك المعاينة التي تبرز المفارقة بين الدنيا والآخرة بشكل نسبي تقديري .
ولصعوبة إدراك عظمة نعيم الآخرة قال الله سبحانه وتعالى : } فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ { ([2])
وهذه الصيغة تشير إلى عموم النفي ؛ أي لا يمكن لأي نفس بشرية أن تدرك أو يحيط إدراكها عظمة النعيم الأخروي كما أننا لا نستطيع الإحاطة بأبصارنا عظمة البحر المحيط ، بل يمكن إدراك عظمة البحر المحيط لإمكان إخضاعه لحواسنا ؛ لكن لا يمكن تصور عظمة النعيم أو العذاب الأخروي لأنه خارج حدود حواسنا ومداركنا .
وفي الحديث القدسي : «   قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى : أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ . » ([3])
هذا الأثر يبرز عجز الحواس ومن ورائها المدارك والعقول عن تصور مدى عظمة النعيم الأخروي ؛ بل في الحديث إشارة عجيبة ، وهي أنه لو فتحنا المجال للخيال لكي يسرح من كل البشرية في تصور لأشكال النعيم المتوقعة في الجنة ؛ فهناك ما هو فوق الخيال مما لا يمكن أن يخطر في فكر بشر ؛ أي هناك نعيم فوق كل تصورات البشر وعقولهم وخيالاتهم .
والسبب أن العقل محكوم في إدراكه بالحواس يدور في فلكها وما تمده من معلومات ، والحواس لم تر إلا القطرة ( الدنيا) ؛ لذا يعجز العقل وفق المعلومات التي استمدها من الحواس إدراك عظمة وحدود البحر العظيم من أشكال نعيم الآخرة ؛ لأنها خارجة عن حدوده ، ومن هذا الوجه يمكن القول أن تصورنا لنعيم الآخرة وعذابها ما زال تصوراً سطحياً محدوداً بالرغم من كثرة الآيات والأحاديث المفصلة في هذا الأمر ، ويرى العلماء أن هذه الآيات مما لم يأت تأويله ولا يمكن إدراكه إلا عند رؤيته حقيقة .
حديث آخر يبرز المفارقة بين نعيم الدنيا وعذابها مقارنة بالآخرة .
  عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t قَالَ :  قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : «  يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ فَيَقُولُ لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ فَيَقُولُ لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ . » ([4])
هذا الأثر يبرز مدى المفارقة لدرجة أن لحظة واحدة في عذاب الآخرة كفيلة بأن تلغي من الذاكرة كل لحظات النعيم التي ذاقها أكثر الناس تنعماً في الدنيا ، وبالمقابل نظرة واحدة في الجنة كفيلة بأن تجعل أبأس الناس في الدنيا ينفي أنه في كل حياته الدنيا قد تعرض لأي بؤس ، والذي حصل أنه لا مقارنة لكليهما بين الدنيا والآخرة .
موازنة فكرية بين الدنيا والآخرة .
قد يستعظم البعض تلك المفارقة بين الدنيا والآخرة ، أو قد لا يتصورها ؛ لذا لا بد من تقريب الأمر ، فنقول : إن أغلى ما في الأرض بحدود علمنا هو ما يعرف بالأحجار الكريمة ، وطبعاً هذه الأحجار خاصة النفيسة منها  لا يمتلكها إلا عدد قليل جداً من الأثرياء أما باقي أهل الأرض فلا يملكون إلا أن يسمعوا عنها أو يرونها في الصور ؛ إذاً هذا أثمن ما في الدنيا ، وأثمن شيء في الأرض أو غاية ما يطمح بتحصيله الإنسان في الدنيا يكون تحت الأقدام في الجنة ، فالجنة حصباؤها اللؤلؤ والياقوت والمرجان طبعاً مع فارق في الجودة بين كلٍ ؛ فإذا كان غاية ما يطمح الإنسان في الدنيا يكون تحت الأقدام في الجنة فكيف بالجنة نفسها .
ومن وجه آخر نقول أن نعيم الدنيا ليس خالصاً لأهله بل تحفه المكدرات والمنغصات والمخاوف ، تجعل الإنسان في كل لحظة من حياته أسيراً بين أمرين وهما الحزن على ما فاته ، والخوف من زوال ما في يديه ، أما في الجنة فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
يكفي القول أن نعيم الدنيا مهما عظم إلى زوال وفناء ، أما نعيم الآخرة فهو دائم خالد ، ولا قياس بين ما يفنى وما يبقى .
أما بالنسبة لعذابات الدنيا قياساً مع عذاب الآخرة ، فالمعلوم أنه مهما عظم عذاب الدنيا أو أشكال البلاء والتنكيل فيها فهي حتماً تنتهي بالموت ، وكلما اشتد العذاب والتنكيل كلما كان ذلك إشارة إلى نهاية صاحبه في الدنيا في الغالب ،  لكن المُعذب في الآخرة قال في حقه الله سبحانه وتعالى : } ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى { ([5]) فهذا هو العذاب حقاً ؛ لأنه لا يسمح لصاحبه بالاستراحة منه أبداً بل هو عذاب سرمدي دائم يقول الله سبحانه وتعالى : } وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ { ([6]) } إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً { ([7]) ؛ فأي عذاب يقاس مع هذا العذاب بل كل عذاب الدنيا لا يعادل قطرة من بحر من عذاب الآخرة .
سئل أحد العلماء عن مكث أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة فذكر مثلاً تقريبياً فقال : تصور لو ملئ ما بين السماء والأرض من حبوب السمسم ، تلك الحبوب الصغيرة جداً ، والتي لا تملك أن تعد حفنة صغيرة في قبضة يدك ، ثم جاء طائر وأخذ حبة سمسم واحدة كل خمسمائة عام ، ينتهي السمسم بين السماء والأرض ، وأهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار .. إنه الخلود ، فأي نعيم أو عذاب يقاس مع نعيم الآخرة أو عذابها .
لماذا نستعظم القطرة ونغفل عن البحر العظيم .
المثل السابق أشار إلى أن الدنيا بنعيمها وعذابها هي قطرة من بحر مقارنة مع الآخرة ، لكن هذه القطرة بالرغم من صغرها لو وضعناها فوق بؤبؤ العين فإنها لا محالة تحجب عنا رؤية البحر العظيم ، وهذا ما وقع فيه أكثرنا حيث نكثر من ذكر الدنيا والانشغال بها ؛ بحيث يتركز فكرنا ووجداننا وعواطفنا نحوها في ليلنا ونهارنا ، في كلامنا وسلوكنا حتى استمكنت من قلوبنا وسدلت ستاراً كثيفاً وحجباً بين القلب وبين رؤية الآخرة ، وأصبحت الدنيا في مركز النظر بيننا وبين الآخرة فحرمنا رؤيتها .
لذا كان جهد الأنبياء في مسح تلك القطرة من مركز النظر ، لكي يتسنى للبشر رؤية ما حجبته من بحر عظيم غير متناه ، وقد نجح الأنبياء في ذلك مع أتباعهم حتى أصبحوا أجساداً في الدنيا أما أرواحهم فانطلقت في جنبات البحر العظيم وسرحت في عالم الملكوت بين الجنة والنار ، عن الحارث بن مالك الأنصاري t قال : «  إنه مر برسول الله   r  فقال له : كيف أصبحت يا حارث ؟  قال : أصبحت مؤمنا حقا . فقال :  انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك ؟ فقال :  قد عزفت نفسي عن الدنيا ، وأسهرت لذلك ليلي ، واظمأت نهاري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها . فقال النبي r : يا حارث ! عرفت فالزم  ثلاثا . » ([8])
وكلما بعدت المسافة عن هدي الأنبياء كلما استمكن حب الدنيا من جديد من القلوب ، وعادت القطرة لتحجب البحر العظيم ، وقد استشعر الصحابة بداية استمكان الدنيا في التابعين عن عبد الله بن مسعود t قال لبعض التابعين : «  أنتم أكثر صلاة وأكثر صياما من أصحاب محمد   r   وهم كانوا خيرا منكم قالوا : وبم  ؟ قال : كانوا أزهد  منكم في الدنيا وأرغب منكم في الآخرة . » ([9])  وعن عمرو بن العاص t  يقول على المنبر : « والله ما رأيت قوما قط أرغب فيما كان رسول الله  r   يزهد فيه منكم ، ترغبون في الدنيا وكان يزهد فيها ، والله ما مر برسول الله  صلى الله عليه وسلم ثلاث من الدهر إلا والذي عليه أكثر من الذي له . »   ([10])    
فهذه بداية الخلل ، ويترتب على هذا الخلل كل الشرور المتوقعة لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة ؛ لذا كان حبها هو أشد ما يخافه النبي r من أمته يقول r : «  .. فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَكُمْ ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ . » ([11]
صورة حية تبرز أثر انكشاف عظمة الآخرة على القلوب .
عندما اشتد الصراع بين موسى عليه السلام وفرعون لعنه الله ، وانتهى الأمر بالمنازلة العظيمة بينه وبين السحرة ، لم يكن في بادئ الأمر في قلوب السحرة إلا عظمة فرعون ودنياه ؛ لذا قبل المنازلة تزلفوا لفرعون بطلب أجر عظيم إذا كانت لهم الغلبة في تلك المنازلة ، يقول الله سبحانه وتعالى : } فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ{41} قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ { ([12]) ؛ إذاً هذه وعود فرعون ، وهي التي حفزتهم أكثر بل جمعت جهودهم للكيد بموسى r ، فلما ألقى موسى عصاه ، وأدرك السحرة بحكم خبرتهم بالسحر وحدوده أن حية موسى r كانت حقيقية وأن بشراً عادياً مهما أوتي من قدرات لن يقوم بما قام به موسى ، وأنه لا بد من قوة عظيمة كانت وراء تحويل العصا لحية حقيقية ؛ لذا وبحالة إيمان سريعة غير شعورية جعلت السحرة يسجدون لله سبحانه وتعالى بعدما عاينوا عظمته ماثلة أمام أعينهم : } فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى { ([13]) وقد جاء لفظ « أُلقي » بصيغة المبني للمجهول ؛ أي أن عظمة الله سبحانه وتعالى التي عاينوها هي التي ألقتهم على الأرض ساجدين لله سبحانه وتعالى ، وبسجودهم هذا كانوا عند عرش الرحمن ، فقد ثبت في الأثر القدسي أن الله سبحانه وتعالى يقول : «   إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا ، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا ، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا ، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا ،  وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً » ([14]) فمقتضى الأثر السابق أن تقرب العبد لله سبحانه وتعالى يترتب عليه تقرب أكثر من جهة الرب ، والسحرة لم يتقربوا من الله سبحانه وتعالى لا شبراً ولا ذراعاً ولا أتوه ماشين بل بسجودهم هذا كانوا أقرب ما يكونون من الله كما ثبت في الحديث الصحيح : « و  أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ . » ([15]) ؛ إذا كان السحرة بسجدتهم هذه عند عرش الرحمن ومقتضى الحديث الذي سبقه يشير إلى أن هذا التصرف من العبد يرافقه مباشرة قربة من الله سبحانه وتعالى تعزز تثبيت هذا العبد ، يقول بعض المفسرين أن الله سبحانه وتعالى أكرم السحرة عندما سجدوا برؤية الجنة والنار ؛ أي عاينوا البحر العظيم قياساً مع الدنيا التي لا تمثل إلا قطرة واحدة منه .
وبهذه الرؤية هان على السحرة نعيم فرعون وتهديده وعذابه مع أن تهديده كان فظيعاً جداً } فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى { ([16])  
إذاً هذا تهديد فرعون ووعيده الفظيع ، وسبقه وعوده وهباته للسحرة إن كانوا هم الغالبين ، وبالرغم من عظمة وعده ووعيده إلا أن السحرة عندما رأوا عظمة الجنة وما فيها من نعيم مقيم لم يكونوا يتصوروا مثله هان على قلوبهم كل هبات فرعون ووعوده التي تعتبر قطرة من بحر نعيم الآخرة الذي رأوه ، وكذلك عندما رأوا هول عذاب الآخرة أصبح في نظرهم تهديد فرعون المخيف لا شيء أمام عذاب الله سبحانه وتعالى ؛ لذا قالوا لفرعون : } لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ، إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى ،  وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى ، جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى { ([17])
فالآيات فيها تصريح بموازنة السحرة بين الدنيا والآخرة وإن كنت يا فرعون تظن أن عذابك أشد وأبقى فإن الله خير وأبقى ، أما أنت فلا تملك بعد قدر الله إلا الحياة الدنيا التي هي قطرة بالنسبة لبحر الآخرة ، لذا نصبر على تهديدك ووعيدك طمعاً في الجنات العلى التي عايناها ولن نبيعها بدنياك الحقيرة .
إذا هذا مثل حيوي يبرز لنا أن الإنسان إذا عاين بقلبه الآخرة وعظمتها فإنه ستهون عليها الدنيا وزينتها ، ولن يبيع الباقية بالفانية .
ما يؤخذ من المثل :
1-     هذا المثل يعتبر من أهم الأمثلة المبرزة لعظمة الآخرة قياساً بالدنيا ، وإدراك المؤمن لهذه المفارقة له الأثر الكبير في ثباته على دينه وصبره على المكاره والابتلاءات ، وعدم إيثاره للعاجل بالآجل ، وبهذا الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة .
2-     في المثل إشارة إلى أن الإنسان مهما أوتي من بصيرة وعلم فإنه لن يحيط بعظمة الآخرة ، بل الآيات ذات العلاقة بوصف الآخرة تعتبر من المتشابه الذي لم يأت تأويله على حقيقته بعد ، وإنما سيقت هذه الآيات للتقريب والترغيب فقط .
هذا المثل يهيج على الزهد بالدنيا وعدم الاغترار بزهرتها ، بل إذا استعظم شيئاً منها فإنه قياساً لما أعده الله سبحانه وتعالى قطرة في بحر .
د . محمد المبيض               بحوثه في الأمثال                    حقوق الطبع محفوظة 


([1]) أخرجه مسلم
([2]) السجدة : الآية 17
([3]) أخرجه البخاري
([4]) أخرجه مسلم
([5]) الأعلى : الآية 13
([6]) فاطر : الآية 36
([7]) النساء : الآية 56
([8]) أخرجه الطبراني برقم 3367[ المعجم الكبير ( 3/266) ] ؛ وابن حميد برقم 455[ مسند عبد حميد ( 1/165) ] ؛ والبيهقي برقم 10591 [ شعب الإيمان ( 7/363) ] ؛ وذكره ابن كثير [ التفسير ( 2/287) ] ؛ قال الهيثمي : رواه الطبراني وفيه ابن لهيعه ، و فيه من يحتاج للكشف عنه [ مجمع الزوائد ( 1/57) ]
([9]) أخرجه الحاكم برقم 7881 ، وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه [ المستدرك ( 4/350) ]
([10]) أخرجه الحاكم برقم 7882 ، وقال صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه [  المستدرك ( 4/350) ]
([11]) أخرجه الترمذي برقم 2462 ، وقال : حسن صحيح ( 4/640) ؛ وابن ماجة برقم 3997( 2/1324)
([12]) الشعراء : الآيات 41-42
([13]) طه : الآية 70
([14]) أخرجه البخاري برقم 7098 ( 6/2741) ؛ ومسلم برقم 2675 ( 4/2067)
([15])
([16])
([17]) طه : الآيات 72-76 

ليست هناك تعليقات: