السبت، 2 يونيو 2012

العدل وثقافة السلام في المجتمع



أولاً : العدل والأمن العام
العدل يحقق الأمن والطمأنينة للمجتمع بأسره ، فالإنسان بطبعه يتمسك بحقوقه ، ويحرص كل الحرص على صيانة حرماته ، كما يسعى للمحافظة على حرياته ، فإذا أمن له المجتمع ذلك وأمكنه الوصول إلى حقه بأي طريق من طرق العدالة عاش آمناً مطمئناً يفكر بطلاقة وموضوعية ، ويعمل بجد ، ويتفاعل مع الآخرين بثقة واطمئنان ، وهذا ينعكس بدوره على تعميق الانتماء والولاء لهذا المجتمع الذي صانه وحماه وحفظ كيانه ورعاه . ([1])بل العدل من أخطر قيم المجتمع على الإطلاق وأبعدها حيوية وأهمية ، لأن استقامة المجتمع وأحكامه وفق قيمة العدل يفضي حتماً إلى إنقاذ قيم اجتماعية أخرى عديدة وأساسية فالأمن مثلاً مرهون بالعدل ، والظلم مفضي إلى غيابه ، وغياب الأمن يهدد كل قيم المجتمع ، يهدد الحياة والعرض والمال والدين ، يفتت معاني الألفة والود والترابط في المجتمع  ، وفي هذا قال بعض الحكماء : « الأمن أهنأ عيش ، والعدل أقوى جيش ، لأن الخوف يقبض الناس عن مصالحهم ويحجزهم عن تصرفهم ، ويفيهم عن أسبـاب المـواد التي بها قوام أودهم وانتظام جملتهم . » ([2])    
 وبالمقابل الظلم يترتب عليه القهر والخوف ، وتغيب معه القدرات ، وتذوي الطاقات ، وتتعزز الانهزامية وعدم الانتماء ، و أي حياة يصادر فيها العدل ، ويتنكب فيها للحق ليست حياة بشر مطلقاً ، بل هي أقرب للبهيمية منها للإنسانية ومحلها الغاب  ؛ لذا يعتبر العدل أهم وسيلة تحصين للمجتمع وأهم رافد من روافد السلام داخله ، وهذا المعنى أشار إليه عمر بن عبد العزيز عندما طالبه أحد ولاته أن يبنى سوراً لمدينته ، فقال له : «  حصنها بالعدل ، والسلام  . » ([3]) وفي رواية : « حصنها بالعدل ، ونق طرقها من الظلم . » ([4])  

ثانياً : العدل قوة للمجتمع .
القوة الحقيقية لأي مجتمع تكمن في مدى سياسته للحقوق والحريات والحرمات بالعدل ، وبالمقابل المجتمع الذي يسوده القهر والاستبداد هو مجتمع منخور من الداخل لا يصمد أمام النوائب والنوازل ، بل يعتريه التفكك والهوان والتآكل الداخلي لأتفه الأسباب ويتخلله العنف والعدائية بين شرائحه ، وتتوالى عليه الهزائم حتى يركع ويستسلم ، وواقع التجربة واستقراء التاريخ يشهدان لهذه المسلمة .
وقد وعي صاحب الرسالة وصحابته الكرام مدى حيوية العدل ، لذا نجد أن المبدأ الأساسي والشعار العام الذي تسلحت به جيوش الفتح هو : « جئنا لنخرجكم من جور الأديان لعدل الإسلام . » ([5])   إنه العدل الذي حول ضعف النفوس إلى قوة صنعت النصر والتاريخ والحضارة والتقدم والرخاء لأمم كان يوصف أهلها بأنهم كلاب الصحراء وآكلو الجِعَل ، والرخاء والتقدم الحضاري له دوره الحيوي في تعزيز معاني الاستقرار والأمن والسلام داخل المجتمع .
ثالثاً :  العدل يحصن المجتمع من أهم إفرازات الظلم وآثاره على من الناحية الفردية والاجتماعية .
انتشار الجور والظلم الذي ينتفي معه العدالة له إفرازات خطيرة تنعكس بشكل جوهري على المجتمع وخطط التنمية فيه ، ولعل من أهم هذه الإفرازات ما يلي :
1-        الظلم يتسبب في فقدان المناعة الاجتماعية ؛ حيث يستطيع كل متطفل في الأمة أن يتسلل إلى
مراكز قيادية فيه ، ويترتب على ذلك اغتصاب الحريات وإهدار الكرامة والتلاعب بمقدرات الأمة، وهذا له أثره في إشاعة الفوضى والعنف داخل المجتمع  .
2-        يترتب على الظلم فساد الأخلاق المجتمعية وتزعزع القيم فيه ؛ لأن الظلم يهدم تساوي الفرص ويحول دون حصول الأفراد على حاجاتهم بالطرق الشرعية ؛ لذا يشيع بينهم التحايل والخداع والرشاوى واستغلال النفوذ ،  وهي أخلاقيات معززة للعنف والعدائية داخل المجتمع  .
3-        الظلم يتسبب في موت الإرادة والعقل عند الأفراد والأمم فتفقد الرأي والعزيمة وتفقد روح المبادرة والإقدام ، وتعجز عن تحمل المسئولية ، ومجابهة التحديات .
4-        يتسبب انتشار الظلم وثقافته في المجتمع في مرض انتفاخ الشخصية و تقلصها أو ما يعرف بالطغيان والاستضعاف ، بمعنى أن الشخصية إذا وصلت مركزاً قيادياً تفرعنت وطغت وانتفخت وبالغت في العجرفة والتعاظم ، وإذا كانت في موقع التبعية تصاغرت وتمسكنت وتذللت ، وبالغت في المدح والمداهنة ، ووجود هذا المرض له مضاعفات كثيرة منها أنه يفضي إلى التطرف في المجتمع  وانتشار الغلو ومفاهيم التكفير داخله ( أو أي مفاهيم عدائية رافضة للمجتمع ) ، كذلك يفضي إلى الجمود الفكري ، إذ يعتبر الظلم والطغيان من أهم معززاته في المجتمع ، والجمود الفكري له أثره على غوغائية المجتمع وعدم تطوره المفضي إلى ميله إلى استخدام وسائل عدائية في التعبير عن مصالحه وحاجاته ، كذلك يترتب على هذا المرض عدم النضج الانفعالي ، ويفرز أنماطاً من البشر مصابة بعدم التوازن النفسي ، فهي من ناحية تعالج قضاياها بالحمية والبطر وردود الفعل العاطفية في أوقات القوة ، وتقع فريسة الإحباط واليأس والهلع في أوقات الأزمات . ([6])  
5-        للظلم ترسباته النفسية الدفينة ، كالاكتئاب والنظرة السوداوية للمجتمع والانهزام النفسي ، ويهيج النزعات الانتقامية ، وهذا ينعكس بدوره على زيادة مستوى الانحراف والجريمة وما يرافقها من عنف وعنف مضاد .
د . محمد المبيض                                                        ثقافة السلام 


([1]) انظر الأسمر : فلسفة التربية الإسلامية ( 220) 
([2])  الماوردي : أدب الدنيا والدين   ( 1/179)
([3])   الثعالبي : الإعجاز والإيجاز ( 1/72)
([4])ابن عبد ربه : العقد الفريد (1/8)
([5]) ابن كثير : البداية والنهاية ( 7/47)
([6])  الكيلاني : فلسفة التربية الإسلامية ( 165 وما بعدها . 

ليست هناك تعليقات: