أولاً : العدل والأمن العام
العدل
يحقق الأمن والطمأنينة للمجتمع بأسره ، فالإنسان بطبعه يتمسك بحقوقه ، ويحرص كل
الحرص على صيانة حرماته ، كما يسعى للمحافظة على حرياته ، فإذا أمن له المجتمع ذلك
وأمكنه الوصول إلى حقه بأي طريق من طرق العدالة عاش آمناً مطمئناً يفكر بطلاقة
وموضوعية ، ويعمل بجد ، ويتفاعل مع الآخرين بثقة واطمئنان ، وهذا ينعكس بدوره على
تعميق الانتماء والولاء لهذا المجتمع الذي صانه وحماه وحفظ كيانه ورعاه . ([1])بل
العدل من أخطر قيم المجتمع على الإطلاق وأبعدها حيوية وأهمية ، لأن استقامة
المجتمع وأحكامه وفق قيمة العدل يفضي حتماً إلى إنقاذ قيم اجتماعية أخرى عديدة
وأساسية فالأمن مثلاً مرهون بالعدل ، والظلم مفضي إلى غيابه ، وغياب الأمن يهدد كل
قيم المجتمع ، يهدد الحياة والعرض والمال والدين ، يفتت معاني الألفة والود
والترابط في المجتمع ، وفي هذا قال بعض
الحكماء : « الأمن أهنأ عيش ، والعدل أقوى جيش ، لأن الخوف يقبض الناس عن
مصالحهم ويحجزهم عن تصرفهم ، ويفيهم عن أسبـاب المـواد التي بها قوام أودهم
وانتظام جملتهم . » ([2])
وبالمقابل الظلم يترتب عليه القهر والخوف ،
وتغيب معه القدرات ، وتذوي الطاقات ، وتتعزز الانهزامية وعدم الانتماء ، و أي حياة
يصادر فيها العدل ، ويتنكب فيها للحق ليست حياة بشر مطلقاً ، بل هي أقرب للبهيمية
منها للإنسانية ومحلها الغاب ؛ لذا يعتبر
العدل أهم وسيلة تحصين للمجتمع وأهم رافد من روافد السلام داخله ، وهذا المعنى
أشار إليه عمر بن عبد العزيز عندما طالبه أحد ولاته أن يبنى سوراً لمدينته ، فقال
له : « حصنها بالعدل ، والسلام . » ([3]) وفي رواية : « حصنها
بالعدل ، ونق طرقها من الظلم . » ([4])
ثانياً
: العدل قوة للمجتمع .
القوة
الحقيقية لأي مجتمع تكمن في مدى سياسته للحقوق والحريات والحرمات بالعدل ،
وبالمقابل المجتمع الذي يسوده القهر والاستبداد هو مجتمع منخور من الداخل لا يصمد
أمام النوائب والنوازل ، بل يعتريه التفكك والهوان والتآكل الداخلي لأتفه الأسباب ويتخلله
العنف والعدائية بين شرائحه ، وتتوالى عليه الهزائم حتى يركع ويستسلم ، وواقع
التجربة واستقراء التاريخ يشهدان لهذه المسلمة .
وقد
وعي صاحب الرسالة وصحابته الكرام مدى حيوية العدل ، لذا نجد أن المبدأ الأساسي
والشعار العام الذي تسلحت به جيوش الفتح هو : « جئنا لنخرجكم من جور الأديان
لعدل الإسلام . » ([5])
إنه العدل الذي حول ضعف النفوس إلى قوة صنعت
النصر والتاريخ والحضارة والتقدم والرخاء لأمم كان يوصف أهلها بأنهم كلاب الصحراء
وآكلو الجِعَل ، والرخاء والتقدم الحضاري له دوره الحيوي في تعزيز معاني الاستقرار
والأمن والسلام داخل المجتمع .
ثالثاً : العدل يحصن المجتمع من أهم إفرازات الظلم وآثاره
على من الناحية الفردية والاجتماعية .
انتشار
الجور والظلم الذي ينتفي معه العدالة له إفرازات خطيرة تنعكس بشكل جوهري على
المجتمع وخطط التنمية فيه ، ولعل من أهم هذه الإفرازات ما يلي :
1-
الظلم يتسبب في فقدان
المناعة الاجتماعية ؛ حيث يستطيع كل متطفل في الأمة أن يتسلل إلى
مراكز قيادية فيه ، ويترتب على ذلك اغتصاب
الحريات وإهدار الكرامة والتلاعب بمقدرات الأمة، وهذا له أثره في إشاعة الفوضى
والعنف داخل المجتمع .
2-
يترتب على الظلم فساد
الأخلاق المجتمعية وتزعزع القيم فيه ؛ لأن الظلم يهدم تساوي الفرص ويحول دون حصول
الأفراد على حاجاتهم بالطرق الشرعية ؛ لذا يشيع بينهم التحايل والخداع والرشاوى
واستغلال النفوذ ، وهي أخلاقيات معززة
للعنف والعدائية داخل المجتمع .
3-
الظلم يتسبب في موت
الإرادة والعقل عند الأفراد والأمم فتفقد الرأي والعزيمة وتفقد روح المبادرة
والإقدام ، وتعجز عن تحمل المسئولية ، ومجابهة التحديات .
4-
يتسبب انتشار الظلم
وثقافته في المجتمع في مرض انتفاخ الشخصية و تقلصها أو ما يعرف بالطغيان
والاستضعاف ، بمعنى أن الشخصية إذا وصلت مركزاً قيادياً تفرعنت وطغت وانتفخت
وبالغت في العجرفة والتعاظم ، وإذا كانت في موقع التبعية تصاغرت وتمسكنت وتذللت ،
وبالغت في المدح والمداهنة ، ووجود هذا المرض له مضاعفات كثيرة منها أنه يفضي إلى
التطرف في المجتمع وانتشار الغلو ومفاهيم
التكفير داخله ( أو أي مفاهيم عدائية رافضة للمجتمع ) ، كذلك يفضي إلى الجمود
الفكري ، إذ يعتبر الظلم والطغيان من أهم معززاته في المجتمع ، والجمود الفكري له
أثره على غوغائية المجتمع وعدم تطوره المفضي إلى ميله إلى استخدام وسائل عدائية في
التعبير عن مصالحه وحاجاته ، كذلك يترتب على هذا المرض عدم النضج الانفعالي ،
ويفرز أنماطاً من البشر مصابة بعدم التوازن النفسي ، فهي من ناحية تعالج قضاياها
بالحمية والبطر وردود الفعل العاطفية في أوقات القوة ، وتقع فريسة الإحباط واليأس
والهلع في أوقات الأزمات . ([6])
5-
للظلم ترسباته النفسية
الدفينة ، كالاكتئاب والنظرة السوداوية للمجتمع والانهزام النفسي ، ويهيج النزعات
الانتقامية ، وهذا ينعكس بدوره على زيادة مستوى الانحراف والجريمة وما يرافقها من
عنف وعنف مضاد .
د . محمد المبيض ثقافة السلام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق