السبت، 9 يونيو 2012

الشهادة العملية لحضور ثقافة السلام وفكر الرحمة في حروب النبي عليه السلام



أحياناً يتصور البعض أن هناك انفصالاً بين التنظير والواقع العملي ، وأن هناك مفارقة حقيقية بين ما يذكره المسلمون وما أفرزه الواقع العملي ، إضافة إلى حالة التهويل التي توحيها أحياناً كثرة الغزوات والسرايا في العهد النبوي بما يشعر بكثرة ضحاياها ،  وهذا يمكن الإجابة عليه بلغة الأرقام ، فالواقع العملي هو الذي يبرز مصداقية النصوص من عدمها ، ونظرة مجملة لكل غزوات النبي وسراياه وما ترتب عليها من ضحايا يبرز بوضوح مدى حضور ثقافة السلام وفكر الرحمة فيها وذلك بيانه في البنود التالية :
1- عدد غزوات النبي r هي ست وعشرون أو سبع وعشرون غزوة ، كان أولها غزوة ودان وآخرها غزوة تبوك ، وذلك خلال سنوات هجرته العشر ، وقد باشر النبي r القتال في تسع غزوات منها وهي : بدر الكبرى وأحد والخندق وقريظة ، والمصطلق وخيبر والفتح وحنين والطائف ، وباقي الغزوات أعدها وحضرها إلا أنه لم يباشر القتال فيها بنفسه ، وإنما بواسطة أصحابه ، وهي ودان ، ثم بواط ، ثم العشيرة ، ثم بدر الأولى ، ثم غزوة بني سليم ، ثم غزوة السويق ، ثم غزوة بني غطفان ، ثم غزوة نجران ، ثم حمراء الأسد ، ثم بني النضير ، ثم ذات الرقاع ، ثم بدر الآخرة ، ثم دومة الجندل ، ثم بني لحيان ، ثم غزوة ذي قرد ، وهذه الغزوات التي لم يباشر فيها النبي r  القتال لم يقع في أغلبها أي قتلى من الفريقين .
2- عدد سرايا النبي r بلغت تقريباً خمساً وثلاثين سرية ، وهناك من يتوسع في عددها أكثر من ذلك ،  و أول هذه السرايا سرية حمزة بين عبد المطلب t ، وآخرها سرية أسامة بن زيد نحو الشام ، وسرية أسامة t جهزها النبي r وتوفي قبل خروجها ، وأوصى بإنفاذها ، و أكبر سرية في هذه السرايا كانت سرية مؤتة التي بلغ عدد جيش المسلمين فيها ثلاثة آلاف ، أما باقي السرايا فعددها محدود قد لا يتجاوز المئة جندي ، وأغلبها لم يقع فيه قتال .
3- عدد القتلى التقريبي في كل غزوات النبي r وسراياه من المسلمين والمشركين ، يتراوح بين 1000 إلى 1500 قتيل كأقصى حد متصور . ([1])
4- عدد الذين أمر النبي r باغتيالهم في الثابت اثنان وهما اليهوديان : كعب بن الأشرف ، وسلام بن أبي الحقيق ، وقد أمر النبي r باغتيالهم بعدما عظمت جرائمهم  .
5- عدد الذين أهدر النبي r دماءهم يتراوح بين ثمانية و اثنا عشر فرداً وذلك في فتح مكة ، بينهم ثلاثة نساء ، وهن قينتان لابن خطل كانتا تهجوان النبي r وهند بنت عتبة ، فأسلمت هند ، واستأمن البعض لإحدى القينتين ، وقتلت واحدة في الراجح ، أما التسعة الباقين فقد عفا النبي r عن أكثرهم وقتل عدد قليل جداً منهم . ([2]
6- المرأة الوحيدة التي أباح النبي قتلها هي من بني قريظة ، وقد قتلت قصاصاً لأنها أسقطت رحاً على أحد المسلمين فقتلته ، وهذا في الراجح من أمرها . 
7- الثابت أنه لم توجد امرأة مقتولة في معارك النبي r إلا واحدة ، وهي التي كانت في حنين ؛ لذا كانت الروايات كلها تشير إلى تلك القصة في الراجح ، وطبيعة المعركة التي استخدم فيها المشركون العنصر النسائي ساهم في حصول هذا القتل ، وقد تبين بعد تحقيق النبي r في هذه الحادثة أن المرأة حاولت اغتيال أحد الصحابة فعاجلها بسيفه .
8- لم يحدث قتل ذرية وأطفال قصداً  مع أهلهم المقاتلين في كل معارك النبي r إلا في إحدى سراياه بعد حنين ، والعدد غير معروف ، لكن أجواء السرية يشير إلى عدد محدود جداً ،  وقد بينت ملابسات هذا الحدث ؛ حيث كان خطأً ميدانياً استحق القائمون به اللوم من النبي r .
9-   لم تقع أي حالة اغتصاب في كل معارك النبي r .
10-      لم يقتل النبي r من الأسرى في الحروب إلا ثلاثة : اثنين في بدر ، وواحد في أحد .
11-      لم يعهد عن النبي r أنه أوقع أي تصفية داخلية لأي عنصر تابع له أو تحت ولايته مهما كان جرم هذا العنصر .
12-  قتل النبي r ما بين 400 إلى 700 من بني قريظة بعد خيانتهم العظمى للمسلمين ، ورجح البعض أن قتلى بني قريظة كانوا أربعمائة فقط ، وهناك من رأى أن الرقم أقل بكثير من ذلك ([3]) ،  وقتل أيضاً ابنا ابـن أبي الحقيق اليهودي في خيبر بعد نقضهما للعهد وخيانتهما للنبي r .
13-  لم يعهد عن النبي r أنه نقض عهداً أبرمه مع العدو في كل معاركه ، بل كل حالات نقض العهد وقعت من غير المسلمين ؛ كذلك لم يعهد عن النبي r أي حالة خيانة أو غدر .
14-  لم يُعهد قتل أي شيخ كبير في معارك النبي r إلا دريد بين الصمة الذي شارك في غزوة حنين وكان الخبير العسكري لجيش المشركين ، وقد قتلته إحدى سرايا النبي r عند ملاحقتها لفلول الفارين ، فعلم النبي r بمقتله ، ولم ينكر ذلك ، وهذا الرجل كان قد تجاوز المائة وعشرين سنة ، وإقرار النبي r لقتله ، لأنه كان العقل المدبر لغزوة حنين وكان أحد المشاركين فيها ، وكان أثره في المعركة أكثر من أثر مئات المقاتلين ؛ لذا قُتل من هذا الوجه على اعتبار أنه أحد القادة المخططين للمعركة .
15-  عدد حالات الغلول أو النهب من المال العام لم تتجاوز عدد قبضة اليد في كل معارك النبي r ، وهذه الحالات تم معاقبتها .
16-  الحالات التي تم فيها تحريق بعض الشجر أو قطعه  أو تخريب بعض المباني اقتصرت على غزوتي الطائف و بني النضير ، ويقال أيضاً خيبر ، وذلك لضرورات حربية ، ففي الطائف تم قطع بعض الكروم وضرب حصون الطائف بالمنجنيق ، وهذا الإجراء من ضرورات الحرب، أما غزوة بني النضير فقد تم قطع شجر النخل لإلجائهم للاستسلام ، وتخريب بيوتهم وقع ابتداءً منهم لئلا ينتفع بها المسلمون .

نظرة إجمالية للإحصائيات التقريبية السابقة
1-   هذه إحصائية تقريبية مجملة لعشر سنوات من حروب النبي r ، تلك الحروب التي غيرت مجرى التاريخ إلى يومنا هذا ، وقلبت حال الجزيرة العربية لتمسك بزمام الحضارة على مستوى العالم القديم بعد أن كانت عبارة عن قبائل متناحرة لا يؤبه لها ، ولا ينظر لأهلها بعين الاحترام من الحضارات المجاورة ؛ بل كان العرب في نظر من حولهم عبارة عن كلاب صحراء وآكلي جعل ، ونظرة واحدة لهذه الإحصائيات نجد أنها أعظم دليل على مدى مثالية أخلاقيات حروب النبي r ، قياساً مع عظمة الإنجازات التي حققتها  ، وهي بحق من أرقى أشكال الحروب الرحيمة التي عرفتها البشرية ؛ حيث كانت الأعظم تأثيراً من الناحية الإيجابية ، والأقل كلفة على مستوى الخسائر ، فمجمل الخسائر في الأرواح على مدى العشر سنوات كان في أقصى حدودها ألف وخمسمائة مقاتل من فريقي النزاع ،  وقياساً مع عصرنا الذي  تزخر فيه المنظمات الدولية الداعية لأخلاقيات الحرب وحقوق المدنيين ومنظمات الحياد المسلح وحقوق الإنسان وثقافة السلام ، نجد أن كل قتلى العهد النبوي لا يساوي قتلى أسبوع من أسابيع العراق من المدنيين وليس من المقاتلين ، بل أحياناً لا تساوي قتلى قنبلة واحدة من تلك القنابل التي تزن بالأطنان ( كقنبلة مؤاب ، أو أم القنابل ) ، والتي كانت تلقيها القاذفات الأمريكية على أفغانستان والعراق ، كذلك  لو جمعنا كل شبهات المرجفين وأكاذيبهم حول العهد النبوي لوجدناها لا تمثل أيضاً أسبوعاً من انتهاكات الحرب في العراق أو في فلسطين أو في أفغانستان أو في فيتنام سابقاً وهذه حقيقة يجب ألا يزايد عليها أحد ، فدلالة الواقع أصرح دليل على درجة المثالية التي تحلى بها النبي r وجنده في حروبهم ، كذلك هذا العدد القليل يبرز أن حروب النبي r كانت تخضع لثقافة معينة تحسر العدائية بأضيق صورها ،  إن ما وقع من النبي r هو إصلاح جوهري للبشرية وتوجيه لبوصلة الحضارة في حالة شيخوختها بأقل التكاليف وأدنى الضحايا ... إنه نبي السلام بحسب تعبير النبي آرميا .    
2-   الإحصائيات السابقة تشير صراحة إلى أن جيش النبوة كان يخضع لتعاليم السماء التي تشرب قدسيتها ، ولا يخضع لنصوص قانونية سرعان ما تتحول لسراب عندما تصطدم مع الواقع ، وهناك فرق بين التنظير وبين حقيقة الواقع ، ومن هذا الوجه يمكن القول أنه لم توجد حروب في كل التاريخ البشري كانت بهذا الحجم القليل من الخسائر على مستوى الأرواح أو على مستوى الممتلكات ، ومن يدعي غير ذلك فليأت بآثارة من علم إن كان من الصادقين .
3-   قلة الخسائر تشير إلى أن هناك مبادئ مقدسة كان يخضع لها الجيش وقانوناً عاماً يحكمها يلخصه الغزالي بقوله : « إن مقصود الشرع تقليل القتل ، كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان ، فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل . » ([4]
4-   نلحظ أن كثيراً من المستشرقين بالرغم من سوء نوايا أغلبهم إلا أنهم لاحظوا تلك المثالية التي تحلى بها النبي r في حروبه ، والتي لم يعهدوا لها شبيه في غيره من القادة ، وهذه الملاحظة تشير إشارة واضحة إلى مصداقية محمد r في نبوته ، بل أخلاقيات الحرب في السيرة النبوية من أعظم دلائل نبوة محمد r ، ولئن كان العهد النبوي يمثل سقف تلك الأخلاقيات على مستوى التاريخ إلا أن المسلمين في حروبهم عبر القرون كانوا يهتدون بهديه بنسب متفاوتة حسب قربهم أو بعدهم عن هدي النبي r ، ولعل أقل هذه النسب تمثلاً بأخلاقيات حروب النبي r  يعتبر من أرقى المثل الحربية الأخلاقية بالنسبة لمن حوله من الأمم ، يعبر المؤرخ المشهور ول ديورانت عن ذلك بقوله : « إن المسلمين – كما يلوح – كانوا رجالاً أكمل من المسيحيين ، فقد كانوا أحفظ للعهد منهم ، وأكثر منهم رحمة بالمغلوبين ، قلما ارتكبوا في تاريخهم من الوحشية ما ارتكبه المسيحيون عندما استولوا على بيت المقدس في عام 1099م . » ([5])
5-   إن مجموع حروب (27 غزوة و35سرية )  نستطيع أن نعد بعض الأخطاء فيها كلها عداً على اليد الواحدة لهي حروب مثالية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ، وهي تؤكد على مسلمة أن النبي محمد r بحق هو نبي الرحمة كما صرحت نصوص المسلمين ونبي السلام كما صرحت نصوص أهل الكتاب .
6-     هذه الإحصائيات تفضح بشكل واضح كل الأساليب المغرضة من الغرب، والتي تهدف إلى تشويه صورة النبي محمد r ووصفه بالدموية والقسوة وهذا واضح في الرسوم المشينة التي صدرت في الدنمارك  ، أو تشير إلى أن تعاليمه هي التي عززت العنف ، وهذا واضح من تصريحات بابا الفاتيكان ، ولعل هذه الإحصائيات أو تلك الأخلاقيات التي سبق الحديث عنها لتشير صراحة إلى أن البشرية لم تعرف قائداً رحيماً شبيهاً بمحمد r ، و إن الإنسانية جمعاء لتدين لمحمد r بتلك  الأدبيات التي تميزت بها حروبه والتي أعادت للإنسان  إنسانيته بعد أن كاد يفقدها نتيجةً لارتكاسته تحت وطأة الهمجية والعنف والقسوة التي عهدت بها العصور القديمة يقول الكاتب الروسي الكبير تولستوي : «  لا ريب أن هذا النبي من كبار الرجال المصلحين الذين خدموا الهيئة الإجتماعية خدمة جليلة ، ويكفيه فخراً أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق ، وجعلها تجنح للسلام وتكف عن سفك الدماء ، وتقديم الضحايا ويكفيه فخراً أنه فتح طريق الرقي والتقدم ، وهذا عمل عظيم لا يفوز به إلا شخص ذو قوة وحكمة وعلم ، ورجل مثل هذا جدير بالاحترام والإجلال . » ([6]


([1])  المعلوم أن أكثر سرايا النبي وكثيراً من غزواته لم يقع فيها أي قتيل ، أما التي وقع فيها قتال فأمكن تفصيل إحصائية مبدئية على النحو التالي : سرية عبد الله بن جحش ( 1 من المشركين ) ، بدر الكبرى ( 14مسلماً 70 مشركاً ) ، غزوة السويق ( 2 مسلمين ) ، غزوة أحد ( 71مسلماً 22 مشركاً ) سرية عبد الله بن أنيس ( 1 مشرك ) ، الخندق ( 6 مسلمين 3 مشركين ) غزوة بني قريظة ( 400 إلى 700 من اليهود ) سرية عبد الله بن عتيك ( 1 يهودي ) سرية عبد الله بن رواحة ( 30 يهودياً ) سرية عمرو بن أمية الضمري ( 1 مسلم 2 مشرك ) سرية محمد بن سلمة ( 9 مسلمين في كمين ) بني المصطلق ( 1 مسلم ، عدد غير معروف من بني المصطلق ، وفي رواية أن قتلى بني المصطلق كانوا عشرة  ) غزوة خيبر ( 16 مسلماً 93 يهودياً  ) سرية مؤتة ( 12 مسلماً ، عدد غير معروف من الروم ) فتح مكة ( 2 مسلم 12 مشركاً ) غزوة حنين والطائف وسراياهما  ( عدد غير معلوم من المسلمين وبعض المصادر ذكرت 16 مسلماً  ، أما عدد المشركين فغير معلوم ) .
ووفق الإحصائية السابقة المبدئية يكون قتلى المشركين 625 إذا كان عدد قتلى اليهود في بني قريظة 400 و925 إذا كان عدد القتلى 700  ، أما المسلمون فعددهم الإجمالي تقريباً 150 مسلماً ، ومجموع قتلى الفريقين على اعتبار أن عدد قتلى بني قريظة 700 هو 1075 أو 775 على اعتبار أن قتلى بني قريظة هو 400  فإذا أضفنا للعدد الأكبر  أربعمائة احتياطاً لجبر الأعداد غير المعلومة في بعض المعارك ، أو للأعداد التي تختلف فيها الروايات المبرزة عدد القتلى ، يكون أقصى حد متصور لقتلى حروب النبي r من الفريقين هو ألف وخمسمائة شخص تقريباً .
([2]) انظر ابن حجر : فتح الباري ( 7/604وما بعدها )
([3]) انظر صفحة 424 من هذا البحث
([4]) الغزالي : المستصفى ( 176)
([5]) ديورانت : قصة الحضارة ( 13/ 383)
([6])  جريشة وغيره : أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي ( 29) 

ليست هناك تعليقات: