السبت، 9 يونيو 2012

الرسول محمد عليه السلام وحقوق الإنسان


محمد r داعية الحقوق الإنسانية والمدافع الأول عنها :
الناظر لرسالة محمد r يجد أنها بمجموعها تعتبر منظومة حقوقية متكاملة ردت للإنسان إنسانيته ، وسارت به نحو رفاهية الحياة ورغيدها ، وجنبته بتشريعاتها المتنوعة تسلط أخيه الإنسان ، حتى يمكن بحق القول أن محمداً r هو المقرر الأول للحقوق في الأرض والمدافع الأول عنها ، وهذه ليست دعوى عرية عن الإثبات ، بل الواقع قبل النصوص يدلان عليها ، و هذا تفصيل يبرز أهم الحقوق التي أثبتتها شريعة محمد r .
حق الحياة : لم ينل حق الحياة عناية أكثر مما ناله في شريعة محمد r ؛ حيث تنوعت الأساليب الوقائية والعلاجية الكفيلة بحفظ الأرواح ، بل إعطائها قدسية تحول دون الاقتراب منها لا سفكها ، وهذا أمر قد بينته في باب العقوبات بما يغني عن إعادته هنا ، يكفي القول أن أي مقارنة إحصائية بين مجتمع يحتكم للشريعة الإسلامية ، وأي مجتمع غربي بخصوص نسبة جرائم القتل والعقوبات المترتبة عليها ، نجد أن البون شاسعاً بينهما لصالح الرسالة المحمدية والتشريعات الربانية التي جاء بها.
حق المساواة :  جاء النبي r لتقرير هذا الحق على أكمل وجه باعتبار أن الأصل الإنساني واحد ، ولا مزية لجنس أو لون على غيره ، وهذا التساوي في أصل الخلقة يقتضي التساوي في الحقوق والواجبات دون تفريق ، قال الله سبحانه وتعالى : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ » ([1]) ويقول الرسول  r : «  يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى . » ([2])   «  لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمْ الَّذِينَ مَاتُوا إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخِرَاءَ بِأَنْفِهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ إِنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ . » ([3]) وقد جاءت أحاديث كثيرة تشير إلى الأخوة الإنسانية ، وتقتضي عدم تمايز أحد على غيره أو افتخاره بعرق أو جنس  : « إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ » ([4]) ، وقد كان النبي r يحارب النعرات القومية التي يفخر بها الإنسان على أخيه الإنسان ويتعالى عليه واعتبر ذلك من مخلفات الجاهلية   ، عن  جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : « كُنَّا فِي غَزَاةٍ ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ.  فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ :  يَا لَلْأَنْصَارِ ! وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ :  يَا لَلْمُهَاجِرِينَ ! فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ r  فَقَالَ مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ ؟ »  ثم قال عن تلك الدعوة : « دعوها فإنها منتنة . »  ([5]) وعندما عير أبو ذر غلاماً له بأمه بقوله : يا ابن الأعجمية قال له رسول الله r : «   إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ  »  ثم بين له أن ظاهرة الرق لا تهيض من إنسانية الإنسان أو تبيح التعالي عليه أو استغلاله فقال : «  إِخْوَانُكُمْ وَخَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدَيْهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ عَلَيْهِ  . » ([6]) ولتقرير حق المساواة بين الرجل والمرأة بين النبي r أن النساء شقائق الرجال ، وبهذه العبارة ألغى النبي r الفوارق بينهما ، فالشقيق هو المساوي لشقيقه من جميع الوجوه .
ويطرح البعض في حق المساواة شبهات متعددة منها ما يتعلق بالمرأة أو ظاهرة الرق ، وهذه الشبهات سبق التفصيل فيها والرد على أصحابها ([7])  ، ومن الشبهات التي تثار في هذا الحق قول البعض  أن الإسلام وإن لم يعتبر الجنس والعرق واللون مدعاة للتمييز ، فقد اعتبر الدين مدعاة لذلك ، فأثبت لأهل الإسلام حقوقاً لم يثبتها لغيرهم ، نقول إن تمييز الإسلام بين أهله وغيرهم على أساس الدين لم يترتب عليه تغييب أي حق لغيره بحكم المساواة الإنسانية ، إنما التمييز بالحقوق مبني على طبيعة الواجبات ، فإن أوجب الإسلام على غير المسلم الجزية ، فقد أوجب على المسلم الزكاة ، ومن تتبع التاريخ الإسلامي يجد أن الملل الأخرى لم تجد من المسلمين إلا كل تسامح مبني على احترام إنسانيتهم ،  يقول المستشرق بارتولد : « إن النصارى كانوا أحسن حالاً تحت حكم المسلمين إذ إن المسلمين اتبعوا في معاملاتهم الدينية والاقتصادية لأهل الذمة مبدأ الرعاية والتساهل . » ([8])  ويقول المستشرق المشهور ديورانت : « لقد كان أهل الذمة المسيحيون والزرادشتيون واليهود والصابئون يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحية في هذه الأيام . » ([9] 
حق العدل : أما العدل بجميع ضروبه سواء حق الإنسان في محاكمة عادلة ، أو حقه في معاملة عادلة ، أو غير ذلك فقد أثبتتها شريعة محمد r بأكمل وجه ، وتميزت عن غيرها بأن إقامة العدل ليس حقاً إنسانياً ، بل مبدأً أساسياً في رسالة الإسلام استمد قدسيته من قدسية الرسالة ، وتنوعت التشريعات الدالة على ضرورة إقامته في المجتمع ،  والعدل يأتي في الدرجة بعد معلم التوحيد ، بل هو لازم من لوازمه  ، وتحقيق العدل في الأرض هو هدف أساس من أهداف الرسل جميعاً ، يقول الله سبحانه وتعالى : } لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ  { ([10]) فالآية صريحة الدلالة بأنه ما من كتاب أنزل ولا رسول أرسل إلا لإقامة العدل في الأرض ، وتفريغ أي رسالة فضلاً عن الرسالة العظمى التي أكرم بها محمد r من العدل  هو تغييب لهدف رسالي أصيل ؛ لذا وجدنا أن أجمع آية في القرآن الكريم قد ذكرت هذا المعلم بوضوح ، يقول الله سبحانه وتعالى : } إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ  { ([11]) فهذه الآية أمرت بكل خير ونهت عن كل شر ، ولعل أهم جانب من جوانب الخير الذي حضت عليه هو إقامة العدل في الأرض .
ومن تتبع سيرة المصطفى r  يجد أن الأمر بالعدل وإقامته كان من أهم سلوكياته وهديه حتى ارتقى بالصحابة الكرام من درجة العدل إلى درجة الإحسان كما بينت سابقاً  ، وإقامة العدل في رسالة الإسلام مبدأ في كل الظروف و لا يتأثر بالعواطف ، يقول الله سبحانه وتعالى : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى   { ([12]) } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ    { ([13]) فتحقيق العدل واجب  ولو كان فيه مراغمة لعواطف العداوة والبغضاء وعواطف المحبة للنفس أو الأهل  فلا العداوة تنقصه ولا المحبة تغيبه ، بل يكون إقامة العدل لله وحده بعيداً عن العواطف .
  ويشهد التاريخ أن كثيراً من الصحابة – وبعضهم كانوا خلفاء أو أمراء - كانوا يقفون أمام القضاء مع خصومهم من اليهود أو النصارى ، وكان القضاة يحكمون في كثير من هذه الخصومات لصالح خصومهم ، مما يشير على طبيعة التربية التي تلقوها لإقرار العدل في الأرض دون اعتبار لجنس أو منزلة أو حسب أو دين .
حق الحرية :
كانت الصرخة الأولى التي جهر بها النبي r بالتوحيد في جنبات مكة بمثابة الإعلان عن تحرير للإنسان من أوهام الجاهلية وخرافاتها ، وتحرير له من استبداد أخيه الإنسان أو استعباده له ، وتحرير للعقل من أصار الهوى وأغلال التقليد ، وتحرير للنفس من ربقة الشهوات ، وتحرير للروح من سيطرة الغريزة وهيمنة الدنيا ، وتحرير للعباد من عبادة العباد سواء كانوا ملوكاً و أسياداً  أو أحباراً ورهباناً ، فالتوحيد في شكله ومضمونه رسالة حرية وتحرير ،  وقد عبر ربعي بن عامر t  عن ذلك عندما سأله رستم عن سبب مجيئهم وإقدامهم  على غزو الفرس ، فقال :   « الله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور   الأديان  إلى عدل الإسلام . » ([14]) بهذه العبارات بين ربعي t أهم مقاصد رسالة محمد r ، وهو تحرير الإنسان من مظاهر العبودية لأخيه الإنسان ، وهذا هو جوهر الحرية ، فالإسلام لا ينظر للإنسان على أنه يملك سلطة تخوله استعباد أخيه ، ولقد صرح المغيرة بن شعبة لرستم بذلك عندما قال : « كانت تبلغنا عنكم الأحلام ، ولا أرى قوما أسفه منكم  ، إنا معشر العرب سواء لا يستعبد بعضنا بعضا إلا أن يكون محاربا لصاحبه فظننت أنكم كذلك مع قومكم  ، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض . » ([15]) فالمغيرة يستنكر ويهوله ما يراه من عبودية الإنسان لأخيه الإنسان ، ويراه لا يليق بكرامة الإنسان ، بل هو ضرب من السفه والاستخفاف بالبشرية ، ثم بين أن العرب لا يستعبد بعضها بعض ، بل لكل إنسان كرامته وحريته ، وليس للحاكم سلطة تخوله قسر إرادة المحكوم أو سلبها .
فهذه المواقف تشير إل أن تحقيق الحرية وتحرير العباد كانا هدفاً سامياً من أهداف رسالة محمد r ، بل رسالته كلها كانت ثورة على الظلم والاستعباد ، رسالة جعلت بلالاً t الذي كان قبل الإسلام عبداً  من الدرجة الرابعة ممن لا يحق له أن يدخل على سيده لخدمته ، بل يبقى عند الخيل ليسوسها فقط ، فهذا الرجل بعد الإسلام نال أعلى درجات الكرامة حتى أصبح مؤذن رسول الله r وخازنه ؛ أي من يتوكل بجمع الأموال وتصريفها ، أو بعبارة أخرى كان بمثابة وزير مالية في الدولة المحمدية ، وبلغ من الكرامة ، أن قاهر الفرس والروم والخليفة الثاني لرسول الله عمر t يقول عنه : سيدنا بلال ، وأعتقه سيدنا أبي بكر ، بل كثير من العبيد نالوا الدرجات العليا في السلم الاجتماعي للدولة المحمدية كعمار بن ياسر t وغيره . 
ولعل أبرز الحريات التي جاءت رسالة محمد r  لتقريرها : الحرية الدينية المبنية على مبدأ لا إكراه في الدين ، والحرية السياسية التي تكفل للجميع إبداء آرائهم السياسية ، وصلح الحديبية خير شاهد على ذلك ، وحرية الفكر ؛ حيث أطلقت رسالة محمد r العنان للعقل في التأمل والبحث دون قيود عليه باعتبار أن العقل والدين صنوان لا يفترقان ولا يتعارضان في الإرشاد للحقيقة أو الوصول إليها ، ومن تتبع آيات القرآن الكريم يجد كثيراً من الآيات التي تذم التقليد ، وتحارب انغلاق العقول أو أسرها ، وتدعو لتحرير العقل والفكر ، وتعزز التأمل والبحث ، ونلحظ أن حرية العقل والفكر في الشريعة قد سيجت بضابط هام ، وهو أن للعقل الخوض والبحث في كل ما يدخل ضمن حدوده ، أما خارج حدوده مما لا يستطيع العقل الخوض فيه لقصوره أو قصور الحواس التي تمده بالمعارف ففي هذه الحالة يسند العقل المهمة للوحي ، أو يسلم العقل القاصر في معارفه للعقل الكلي المحيط بأسرار الكون وحقائق الموجودات .
أما حرية الرأى فقد كفلها الإسلام ، وتعهدها النبي r في كل خطوة من خطواته ؛ حيث كان يشاور أصحابه في أكثر شأنه العام ، ويقبل بمراجعاتهم ، يأخذ برأيهم إن رأى صوابه ، بل لاحظنا في غزوة أحد أن النبي r قد أخذ برأي الأكثرية مع اختلافه معهم بالرأي ، وكل ذلك رعاية لحرية الرأي وتعزيز لها في المجتمع .
أما تقرير حرية المرأة أو العبيد فقد راعاها النبي r بأكمل الوجوه ؛ حيث رد للمرأة كرامتها وإنسانيتها وساوى بينها وبين الرجل في كل الحقوق حتى في المرجعة السياسية ، وموقف أم سلمة في الحديبية خير شاهد على ذلك .
باقي الحقوق : أما الحقوق الأخرى كحق التكافل الاجتماعي ورعاية المسنين والفقراء والمحتاجين وتوفير فرص عمل ، وحق الإنسان في الانتماء لأسرة وغير ذلك ، فإن رسالة محمد r كانت الأوفى حظاً والأكمل تشريعاً في هذا الباب ، بل كل رسالة محمد r مبنية على التكافل ، و رسالته لم تقتصر على رعاية الأسرة الصغيرة والانتماء إليها ، بل بلغت في درجة الكمال أن حولت المجتمع كله كأسرة واحدة في العواطف والآمال والواجبات والحقوق والتعاطف والتواد ، بل حولت المجتمع كجسد واحد ، يقول الرسول r : «  مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى . » ([16])
  ميزة الحقوق الإنسانية التي جاء بها محمد r مقارنة مع القوانين الدولية :
لعل أهم ما تتميز به الحقوق في رسالة محمد r هو الشمولية والتوازن والانضباط والتكامل ، فالإسلام عندما راعى حقوق المرأة لم ينظر فقط لتلك المرأة الشابة التي تبحث عن بعض الحقوق ، بل رعاها طفلة ، وتعهدها شابة ، واعتنى بها كأم ، وعزز الاهتمام بها كمسنة ، ولم تقتصر حقوقها على الجانب المادي ، بل تعداه إلى الجانب النفسي ، وإن شئت فقارن بين امرأة مسنة ملقاة في دار عجزة ، لا يزورها أبناؤها الذين فروا منها عبر مسرح الحياة إلا في مناسبات محدودة ، وبين امرأة مسنة كفل لها التشريع القدسية كأم ، واعتبر العناية بها وتكريمها حال ضعفها من أعظم موجبات الرحمة ، وأكد على حقوقها لدرجة أن حرم التأفف في وجهها ، بل اعتبر برها والحنو عليها والاعتناء بتكريمها والصبر عليها سبباً في نيل رضوان الله ، وبالمقابل أي شكل من أشكال التقصير معها يعتبر من أعظم الأسباب الموجبة للعذاب .
فمقارنة بين هاتيـن الصورتين تبرز لنا مدى الشمولية التي اتسمت بها رسالة الإسلام في رعاية الحقوق .
أما التوازن بين الحقوق فهذا مما تتميز به رسالة الإسلام عن غيرها ، ونقصد بالتوازن بين الحقوق أن الإسلام إذا راعى حقاً من الحقوق فإنه لا يغلو به على حساب الحقوق الأخرى ، ولا يسمح له أن يتجاوز حده فينقلب إلى ضده  ، وهذا الغلو واضح في القوانين الوضعية ، فهي عندما طالبت بحقوق الإنسان غيبت حق الله سبحانه وتعالى ، بل افتعلت تعارضاً بين حق الله والحق الإنساني ، وهذا غلو حرم البشرية من روحها وأقدس حقوقها ، أو بعبارة أخرى كان هذا غلواً للجسد على حساب الروح ، والمادة على حساب الفضيلة .
وعندما طالبت بحق الحرية لم تضبطه بأي ضابط ، وأطلقت له العنان حتى تحول إلى فوضى استفاد منها سخفاء البشرية وأراذلهم على حساب عقلائهم وسوادهم الأعظم ، وترتب على ذلك تغييب الفضيلة ونشر الرذيلة في المجتمع الإنساني ، وطغى هذا الحق على غيره من الحقوق كحق الانتماء لأسرة ، أو حق الحياة ؛ حيث عمت الجريمة بحجة حماية الحرية ، وطعنت إنسانية الإنسان وكرامته بحجة حماية حرية التعبير ، حتى أضحى تشويه أسمى المظاهر الإنسانية وأجمل صورها  نوعاً من الحرية ، وبـات الطعن في الأنبياء والرسل حقاً إنسانياً وجب المحافظة عليه .
وعندما طالبت بحق المرأة طالبت بمساواتها مع الرجل من جميع الوجوه مع أن الله سبحانه وتعالى قد فرق بينهما من الناحية الفطرية ، وترتب على هذه المساواة حرمان المرأة من أقدس حقوقها كحق الإرضاع والحضانة والتربية ، بل ألبستها ثوباً غريباً عليها حرمها من طبيعتها الأنثوية .
وعندما طالبت بالحريات الشخصية خرجت بالإنسان عن فطرته ، وأباحت له ما لا تستبيحه أرذل الحيوانات ، وذلك عندما أجازت بعض القوانين زواج الرجال بالرجال والنساء بالنساء بحجة أن ذلك يدخل في باب الحرية الشخصية .
فهذا طغيان واضح ، والبشرية تعاني منه ، ورعاية حقوق الإنسان أصبحت معولاً لهدم إنسانيته ، والنزول بها إلى درجة البهيمية .
أما شريعة محمد r فقد حققت توازناً رائعاً بين كل هذه الحقوق ، وتضمنت تكاملاً مدهشاً  بينها ، وعززت التكامل بكثير من الحقوق الفرعية التي غفلت عنها القوانين الوضعية ، وعندما قررت حق الحرية ضبطته بما يحقق السعادة للإنسان ، و يجنبه الفوضى المهلكة .
كذلك أهم ما تتميز به الحقوق الإنسانية في رسالة محمد r هو تلك القدسية التي نالتها من ربانية التعاليم  ، وهذا يعزز تطبيقها في المجتمع بأكمل وجه ، وينقلها من طور الشعارات إلى منحى تطبيقي ملزم مؤيد ببث ضمير حي مراقِب في داخل كل فرد ، فحق الحياة ليس شعاراً ، بل هو حق مقدس يعتبر التهاون به سبباً للعقاب الدنيوي والأخروي ، وكذلك الحقوق الأخرى  .
فهذه هي حقوق الإنسان في تعاليم رسالة محمد r ، وهي حقوق متوازنة متوافقة وفطرة الإنسان لا تنبو عنها قيد أنملة ، وهذا يعطيها الخلود والثبات المشوب بالمرونة الكفيلة بإسعاد البشرية لو اختارتها منهجاً لها ، وكل منصف مطلع على منظومة الحقوق الإنسانية في الرسالة المحمدية يدرك هذه المسلمة ، ويعلم أن ما جاء به محمد r هو الهدف المنشود لكل إنسان على ظهر البسيطة ، يقول المستر ماك برايد الأستاذ في جامعة دوبلن ووزير خارجية إيرلندا السابق في الندوة العلمية المنعقدة في الرياض في شهر صفر 1392 هـ : « من هنا ومن هذا البلد الإسلامي يجب ان تعلن حقوق الإنسان لا من غيره من البلدان . » ويقول زميله : « إن أحكام القرآن في حقوق الإنسان هي لا شك تتفوق على ميثاق حقوق الإنسان . » ([17])  
د. محمد المبيض                                 كتابه  نبي الرحمة 


([1]) الحجرات : الآية 13
([2]) أخرجه احمد برقم 23536 [ المسند ( 5/411) ] ؛ والطبراني برقم 4749 [ المعجم الأوسط ( 5/86) ] ؛  قال الهيثمي : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح [ مجمع الزوائد ( 3/266) ]
([3]) أخرجه الترمذي برقم 3955 ، وقال : حسن غريب [ السنن ( 5/734) ] ؛ وأحمد برقم 2739 [ المسند ( 1/301) ] ؛ قال الهيثمي :            رجال أحمد رجال الصحيح [ مجمع الزوائد ( 8/58) ]
([4]) أخرجه مسلم برقم 2865 [ صحيح مسلم ( 4/2198) ]
([5]) أخرجه البخاري برقم 4622 [ البخاري ( 4/1861 ) ]
([6]) أخرجه البخاري برقم 30 [ البخاري ( 1/20) ]
([7]) انظر صفحة 163 وما بعدها ، وصفحة 169 وما بعدها
([8]) انظر سلطان : تاريخ أهل الذمة في العراق (124) ، نقلاً عن بارتولد : الحضارة الإسلامية (19)  
([9]) ول ديورانت : قصة الحضارة (13/130)
([10])  الحديد : من الآية 25
([11])النحل : الآية 90  
([12])المائدة : الآية 8  
([13])النساء : الآية 135   
([14]) الطبري : تاريخ الطبري ( 2/401)
([15]) المرجع السابق ( 2/402)
([16]) أخرجه مسلم برقم 2586 [ صحيح مسلم ( 4/1999) ]
([17]) نقلاً عن الحسني : محمد الإنسان الكامل ( 258)  

ليست هناك تعليقات: