الاثنين، 11 يونيو 2012

منهج النبي عليه السلام في تعزيز الضمير الخلقي والحارس الإيماني


جهد النبي r لتعزيز الضمير الخلقي والحارس الإيماني .
يقصد بالضمير الخلقي : ذلك الوازع الداخلي الذي يراقب من الداخل أعمال الإنسان الخارجية فيحكم له أو عليه ، أو هو مركز التوجيه في الإنسان يعظه ويوجهه ويقود نياته ومقاصده وأفعاله ، ويضيء علاقته بربه أو بالآخرين ، أو هو الشعور النفسي الداخلي الذي تنعكس عليه أعمال المرء فيرى فيها تقدير هذه الأعمال ويتسنى له أن يحكم عليها بالخير والشر ([1])
و الضمير الخلقي أمر خفي وقوة معنوية في أعماق الإنسان تصده عن العمل القبيح وتحرضه على التصرف الحميد ، وهو بذلك الشريان الحيوي المعزز لتجسيد القيم في أرض الواقع ؛ لذا اهتم النبي r بتفعيله وتحفيزه بعدة وسائل منها :
أ‌-      التأكيد على الرقابة الربانية لأفعال الإنسان وأقواله : وهذه الفقرة توسعت فيها النصوص القرآنية التي تؤكد على وجود إله مطلع على كل خفايا النفس ومراقب لكل صغيرة وكبيرة تصدر عنها منها قوله تعالى : « يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ » ([2]) « قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ » ([3]) « وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى » ([4])    « إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ » ([5]) فالحافظ هنا على رأي كثير من المفسرين هو الرقيب « وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ » ([6]) « وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً » ([7]) « وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً » ([8]) « مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ » ([9]) فهذه النصوص تشير إلى الرقابة الربانية لسلوك الإنسان ودوافعه إلى ذلك السلوك مع تأكيدها على تسجيل السلوك الظاهر والباطن ، ويعتبر هذا الجانب من أهم محفزات الضمير ، وبدونه لا يمكن تصور حقيقي للضمير الخلقي ؛ لذا يقول أحد الحكماء : « إن ضميراً بلا اعتقاد في الله يكون كمحكمة ليس بها قضاة . » ([10])   
ب‌-           ربط الضمير الخلقي بالترهيب والترغيب ، والمحاسبة على بواعث السلوك :  من ذلك قول النبي r  : «  إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ » ([11]) والعلماء على أن هذا الحديث يمثل ثلث الدين ، ويدخل في كل أبوابه ، ومضمون الحديث على أن المحاسبة يوم القيامة تكون على النوايا ، وأنه لا ينظر للعمل الصالح إذا كانت بواعثه غير صادقة ، وهذا من شانه أن يجعل الضمير الخلقي منتبهاً في جميع الأحوال ، وقد بينت بعض الآيات أن الإنسان إذا أهمل ضميره الخلقي فإنه يكون يوم القيامة من الخاسرين يقول الله سبحانه وتعالى : « وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ » ([12]) « قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً » ([13]) فهذه النصوص وغيرها كثير كفيلة بإضفاء الحيوية والانتباه الدائمين للضمير الخلقي ليؤدي دوره المنشود في الحياة .
ت‌-            ربط الضمير الخلقي بالسلوك الخلقي ، ولعل أهم دليل على ذلك قول النبي r : «   اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ  » ([14]) فهذا الحديث يمثل قاعدة ذهبية من ثلاث عناصر كفيلة بتحقيق الإصلاح الخلقي وتحفيز الحارس الداخلي في الإنسان ، وقد أسماه ابن تيمية الوصية الجامعة لخيري الدنيا والآخرة ، فالحديث تضمن تحفيز الحارس الداخلي بدعوة النبي r لتقوى الله في كل مكان ؛ أي خشيته في كل حال سواء اطلع عليه الناس أم لم يطلعوا ، ثم انتقل الحديث إلى نهج إصلاحي براعي حال الإنسان وواقعه وطبيعته التي لا تخلو من اجتراح السيئات ؛ لذا لم يقل لا تقع بالسيئة ، بل طالبه حال الوقوع بالسيئة أو المعصية بأن يتبعها بعمل خير أو بالحسنة ليدفعها أو يرفعها ، وهذا منهج إصلاحي ينمي الخير ويقلل من تبعات الشر وآثاره ،  ثم انتقل الحديث إلى الأخلاق العملية بوصية جامعة تطالبه بمخالقة الناس بخلق حسن .
هذه بعض معالم الجهد النبوي في تعزيز الضمير الخلقي في المجتمع ، والضمير الخلقي من أهم عوامل الالتزام الخلقي ، وبدونه يكون الالتزام مترهلاً و مشكوكاً فيه ، بل فقدان الضمير الخلقي يترتب عليه انهيار البنيان الاجتماعي للإنسان ، يقول ألكسيس كاريل : « إن الإحساس الأدبي– أي الضمير الخلقي -  أهم بكثير من العقل ، وحينما يفقد هذا الإحساس من أحد الشعوب ، فإن كيانه الاجتماعي كله يبدأ بالانهيار البطيء . » ([15]) بل نلحظ أن فولتير أحد فلاسفة الثورة الفرنسية لم يتجرع فكرة الإلحاد لما يعلمه من نتائجها المدمرة على الضمير فبحث عن الإيمان بطريقة الفلسفة النفعية فيقول : « لو لم يكن الإله موجوداً ، لوجب اختلاقه ، لأنه لولا الله لخانتني زوجتي ولسرقني خادمي . » ([16]) فهذه الكلمات وإن تضمنت إلحاداً إلا أنها تعكس بنفس الوقت مدى الأثر السلبي على مستوى الإنسانية عند فقدان الضمير الخلقي المؤسس على الإيمان بالله ، خاصة أن الضمير الخلقي وما يمليه من سلوكيات خارج عن الإلزام القانوني ؛ لذا يحتاج نهجاً إلزامياً خارج رقابة القانون ، يقول ألكسيس كاريل : « إن الدولة قادرة على فرض القانون على الشعب بالقوة ولكنها لا تستطيع أن تفرض عليه الأخلاق . » ([17]) وهذه مسلمة لأن الإنسان في ظل القوانين الوضعية يعلم أن هذه القوانين لا تعلم ما في نفسه ، ولا تملك سلطة على ضميره ؛ لذا يملك ارتكاب أبشع الحماقات ما دام بعيداً عن نظر القانون ولا يقع تحت طائلته .
ومن هذا الوجه نعرف مدى حيوية رسالة محمد r  وتأهلها المثالي لرعاية القيم في المجتمع ، إنها أهلية لا تملكها كل نظم الأرض ، ولا تستوعبها من جميع جوانبها كل أديانه .


([1])انظر الشيباني : فلسفة التربية الإسلامية (257) ؛ الأسمر : فلسفة التربية الإسلامية ( 436)
([2])  غافر : الآية 19
([3])  آل عمران : الآية 29
([4])  طه : الآية 7
([5])  الطارق : الآية 4
([6])  ق : الآية 16
([7]) النساء : الآية 1 
([8])  الأحزاب : الآية 52
([9])  ق : الآية 18
([10]) الشيباني : فلسفة التربية الإسلامية ( 437) 
([11]) أخرجه البخاري  برقم 1 ( 1/3)
([12]) الزمر : الآية 47 
([13]) الكهف : الآيات 103 -104
([14])  أخرجه الترمذي برقم 1987 ، وقال حسن صحيح ( 4/355) 
([15])  كاريل : الإنسان ذلك المجهول ( 153)
([16]) الإدريسي : الأخلاق بين الأديان السماوية والفلسفات البشرية ( 3) 
([17])  كاريل : الإنسان ذلك المجهول ( 152)  

ليست هناك تعليقات: