السبت، 9 يونيو 2012

محمد عليه السلام والأمن والسلام


محمد r معزز الأمن المجتمعي وناشر السلام في الأرض .
بعث النبي r في مرحلة تعتبر الأكثر زعزعة على مدار التاريخ ، حرم فيها الناس خاصة في جزيرة العرب من نعمة الأمن ، و لم ينعم بها على وجه الخصوص إلا أهل مكة بحكم مجاورتهم للبيت الحرام ، أما باقي الجزيرة العربية فقد ساد فيها ثقافة السلب والنهب والاقتتال لأتفه الأسباب حتى أفنت الحروب المتوالية أكثر رجالهم ، وكانت قبائل بأكملها تمتهن مهنة السلب والنهب وقطع الطريق كبعض قبائل طيء وغيرها ،  أضيف إلى ذلك انتشار جرائم القتل المتنوعة في داخل المجتمع ، بل الفاقة والفقر كانا كفيلين بحرمان كثير من الأطفال من حياتهم في بدايتها وعلى يد أقرب الناس إليهم ، ولم يسلم المجتمع في ليله من كثير من حالات الاغتيال والغدر ، وكان لغياب الأمن أثره على العربي الذي لم يكن ينام الليل ؛ حيث يبقى على أعلى درجات الاستنفار ، ويجد نفسه دائماً بين خيارين : إما يجهز نفسه للإغارة على الغير وسلبهم ، وإما يتحين وقوع الغارة عليه من الغير .
في ظل هذا الواقع المرير بدأ النبي r رسالته ، وجعل من أسمى الغايات التي يبشر بها ويحرص على تحقيقها : توفير الأمن الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع ؛ لذا بدأ رسالته بوعود متكررة تدل على أن هذه الغاية ستتحقق في المجتمع بأكمل وجه ، وتصدر منه هذه الوعود  وهو لا يستطيع أن يحقق لنفسه ولا لأقرب الناس إليه الأمن من غيلة قريش وغدراتهم ، يأتيه خباب t  وهو متوسد بردة في حجر الكعبة مع غيره من المعذبين يشكون له ما أصابهم قائلين له :  « أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا ! أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا ! فقَالَ لهم النبي r  : كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ ، فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ  فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ » ([1]
هذه الكلمات خرجت من فم النبي r في أحرج الظروف من الناحية الأمنية ، وقد تضمنت وعداً وبشارة بتحقيق الأمن للمجتمع بأسره  حتى أقصى جنوب الجزيرة ، ويقطع  الراكب مسافات شاسعة  آمناً لا يخاف على نفسه ولا على غنمه إلا من قدر السماء وعوادي الوحوش،أما من جهة أخيه الإنسان فسيبلغ الأمن من جهته مداه .
وكان وعد النبي r وبشارته بتحقيق الأمن المجتمعي والاقتصادي  أمراً لا تتصوره العقول خاصة في ظل الواقع المعقد الذي وصل إليه العرب ، وتلك الثقافة المميتة التي تشربتها عقولهم ،  عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ t قَالَ : «  بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ  r  إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ ، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ فَشَكَا إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ . فَقَالَ  : يَا عَدِيُّ هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ  ؟ قُلْتُ : لَمْ أَرَهَا وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا . قَالَ : فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللَّه . َ قُلْتُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي : فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ الَّذِينَ قَدْ سَعَّرُوا الْبِلَادَ ؟
وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى .  قُلْتُ . كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ !! قَالَ :  كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ .
وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنْهُ ...    
 قَالَ عَدِيٌّ :فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ ، وَكُنْتُ فِيمَنْ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ لَتَرَوُنَّ مَا قَالَ النَّبِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ  r  يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ . » ([2])  
هذه وعود صدرت من النبي r في لحظة كان يتصور سامعه استحالة وقوعها أو بعده ، وعندما أشار النبي r إلى أن المرأة ستخرج لوحدها آمنة مطمئنة من ناحية العراق تجوب كبد الجزيرة العربية إلى أن تصل الحجاز ، تعجب عدي t ، وقال في نفسه مستبعداً مرحلة حصول هذه البشارة لما يرى من الصعوبات والعقبات التي تحول دون وقوعها لعل أهمها تلك القبائل التي تشتهر بالسلب وقطع الطريق بحيث تخافها القوافل المسلحة فكيف بامرأة مجردة عن كل وسائل الدفاع ؛ لذا قال في نفسه  : فأين صعاليك طيء أو قطاع الطرق فيها الذين دمروا البلاد نهباً وسلباً ، ماذا سيكون حالهم في تلك المرحلة ؟ وعندما وعد بالنصر على كسرى زاد عجبه ، وعندما وعد النبي r بتحقيق الأمن الاقتصادي ؛ بحيث يشمل كل فرد في المجتمع ، بل يزيد المال عن حاجتهم زاد الأمر غرابة في نفسه ... وما هي إلا سنوات قلائل حتى عاين عدي بنفسه أن الأمن المجتمعي قد بلغ مداه كما قال النبي r وكان أحد الفاتحين لكنوز كسرى ، أما بلوغ  الأمن الاقتصادي مداه فهذا حصل مع انخرام القرن الأول في عهد عمر بن عبد العزيز الذي كان يطوف بالصدقة فلا يجد من يقبلها .
فهذا التغير السريع وغير المتصور على مستوى الأمن والرخاء ليشير صراحة إلى عظمة الجهد الذي قام به النبي r وتلك الحكمة المتناهية التي رزقها ؛ بحث قام بما عجزت عن جزء منه  منظمات دولية بكل إمكانياتها الضخمة ، ومن ينظر إلى عظمة الإنجاز الذي قام به محمد r يقف مدهوشاً أمامها ، هل يستطيع بشر أن يحقق ما حققه محمد r ، والحقيقة في هذا الشأن أن بشراً عادياً مهما بلغ من كماله وعظمته  لا بمكن أن يقوم بمثل هذا العمل الضخم ، لكن رجل كمحمد اصطنعته العناية الإلهية ليكون أسمى مظهر من مظاهر الرحمة الربانية ، وأكمل مثال بشري وطأ الأرض  ، فيمكن تصور ذلك منه   .
كذلك هذه النتيجة المذهلة على مستوى الأمن والرخاء  لتدل صراحة على أن تحقيق الأمن الاقتصادي والاجتماعي كان جزء من غاياته السامية التي يحرص عليها ؛ لذا عندما نصفه بأنه  رسول الأمن والسلام في الأرض لا نجانب الصواب بل هو الأولى بهذا اللقب على مستوى البشرية كلها ، وما زالت تعاليمه هي الأقوى والأنجع في تحقيق الأمن والسلم العالميين .  


([1]) أخرجه البخاري برقم  3416 [ البخاري (3/1322)    
([2]) أخرجه البخاري برقم 3400 [ البخاري ( 3/1316) ] 

ليست هناك تعليقات: