الفلسفة المهيمنة على مفهوم
العبادة .
العبادة هي الأفق الأسمى الذي
تصبو إليه قلوب العباد ، بل لا يتصور أي معنى لكلمة عباد دون العبادة ؛ لذا جعلها
الله سبحانه وتعالى الحكمة من خلقه لعباده ، يقول
الله سبحانه وتعالى : « مَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ » ([1])
فالآية صريحة في بيان أن
المقصد الحقيقي والوحيد من خلق الثقلين (الإنس والجن ) هو عبادة الله سبحانه
وتعالى ، ومقتضى هذا المفهوم أن الإنسان مطالب بعبادة الله سبحانه وتعالى خلال
الأربع وعشرين ساعة من يومه ، وهذا أمر غير متصور من خلال العبادة التعبدية ؛ أي
العبادة المتضمنة لشعائر معينة ( صلاة – صوم – زكاة – حج ) والتي يتقرب بها العبد
من ربه ، فالزكاة تأخذ جزءً من ماله خلال السنة وقد لا يكلفه إخراجها أكثر من ساعة
واحدة ، والحج مرة واحدة في العمر ،
ووجوبه مقيد بالاستطاعة ؛ لذا يحتمل أن تدور عجلة الوقت على المسلم دون أن يلزمه
أداء هذه الفريضة في كل حياته ، والصوم
يأخذ من وقت الإنسان شهراً واحداً في العام ، والصلاة لا تأخذ من وقت الإنسان أكثر
من ساعة واحدة في اليوم ، وأنا هنا أتحدث عن المقدار الواجب على الإنسان ، يبقى
تساءل هام : الصلاة تأخذ من يوم الإنسان ساعة واحدة ، ويبقى في ذمته ثلاث وعشرون
ساعة ، فما هو وجه التعبد المطالب فيه خلال هذه الساعات الطوال ؟
وهذا التساؤل يفتح لنا المجال
أمام شكل آخر من أشكال التعبد ، هو الكفيل باستيعاب يوم الإنسان ، والضامن للإنسان
في المحافظة على إنسانيته كما أرادها الله سبحانه وتعالى له وفق درجة التكريم التي
أكرمه بها ، إنه مجال العبادة الخلقية ، إنه الارتقاء في سلم القيم والفضائل ليكون
سيد المخلوقات ومناط الاستخلاف في الأرض ، وأهلاً للخطاب الرباني في الإصلاح لا
الإفساد وقد بين النبي r هذا المعنى بقوله : « السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ
كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - وَأَحْسِبُهُ قَالَ يَشُكُّ الْقَعْنَبِيُّ
- كَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ . » ([2]) « إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ
دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ » ([3])
فالحديثان صريحان في أن
العبادة الخلقية هي الكفيلة باستيعاب المفهوم الواسع لعبادة الإنسان لخالقه ،
فالإنسان بخلقته وفطرته لا يستطيع أن يستوعب
جميع حياته صوماً أو صلاة ، لكن يملك أن ينال أجر الصائم القائم إذا ارتقى
في سلم القيم والأخلاق ، وهو بهذا الصنف من العبادة يمتلك أن يحول حياته كلها إلى
عبادة لله سبحانه وتعالى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق