الاثنين، 11 يونيو 2012

دور القيم والأخلاق في تعزيز الأمن في المجتمعات


القيم والأخلاق وأثرها على ثقافة السلام

لا يخفى الدور المباشر للقيم في تعزيز ثقافة السلام بين المجتمعات ، و في تحقيق الأمن والسلم الأهلي داخلها ؛ فهناك تلازم بين القيم والسلم باعتبار أن أحدهما محصلة للآخر ، فكلما ارتقت منظومة القيم في المجتمع نجد انحساراً لثقافة العنف والعدائية ،  وفي حال  الانحدار القيمي للمجتمع نجد ارتفاعاً ملحوظاً لمستوى العنف داخله ، ويمكن بيان الأثر الجوهري للقيم في تعزيز السلام وتحقيق الأمن من خلال النقاط التالية  . 
أولاً : القيم وتعزيز حاجات الإنسان .
تعتبر الصحة والأمن والاستقرار من أهم الحاجات الإنسانية ، والقيم هي من أهم معززات هذه الحاجات في المجتمع ، فعلى مستوى الأمن نجد أن غياب القيم من المجتمع وانتشار الخديعة والريبة والغش والكذب  والظلم بين أفراده ، و ما يترتب على ذلك من اضطهاد وتغييب للشخصية الإنسانية ،  وشيوع الانحرافات الأخلاقية هي من أهم أسباب غياب الأمن والاستقرار في المجتمعات ، وتجربة الواقع سواء عندنا أو عند الغرب أكبر شاهد على ذلك .
كذلك نلحظ أن هناك علاقة مباشرة بين القيم والصحة النفسية على وجه الخصوص ، والصحة العامة على وجه العموم ، بل حقيقة الأمراض النفسية أو الاعتلالات النفسية أن لها بدايات خلقية ، فسوء الخلق ، أو غياب المعايير الخلقية داخل المجتمع يترتب  عليه الانعزال والاغتراب النفسي ثم سيطرة الأفكار السوداوية وما يرادف ذلك من اكتئاب ثم دخول في سلسلة الأمراض النفسية المتداخلة في درجتها الثانية مع الانحراف السلوكي ، والذي يتسم بالحدة والعنف في أغلب أحواله ، وما يترتب عليه من عنف مضاد . ([1])
وبالمقابل خلق الرحمة والسماحة والاعتدال وثقافة المحبة معززة للتقبل الاجتماعي ومحققة لتقدير الذات وما يرادف ذلك من صحة نفسية على مستوى الفرد والمجتمع ، وهذا ينعكس بدوره على تعزيز ثقافة السلام وحل مشكلات المجتمع بالوسائل الحضارية السلمية .
ثانياً : القيم هي صمام الأمان للمجتمعات .
القيم هي أساس بناء المجتمع وعنوان رقيه وهي الدعامة الأولى لحفظ الأمم والدول والمجتمعات وبفضلها ينهض العمل الصالح النافع من أجل خير الأمة والمجتمع ، وباستقراء التاريخ نلحظ أنه ما من أمة حادت عن مبادئ الأخلاق الفاضلة وانحرفت نحو الترف والإسراف والفساد والانحلال الخلقي أو إلى القهر والتجبر والظلم إلا دمرها الله سبحانه وتعالى بسبب ترفها وظلمها ؛  لذا خطر الانحطاط على مستوى القيم والأخلاق هو أخطر بكثير من الانحطاط المادي ، وذلك لما يترتب عليه من تآكل داخلي ونزوع عدواني يزعزع أركانه ويقوض معالم التنمية داخله  . ([2])
ثالثاً : القيم والأخلاق تنمية للذات الإنسانية .
الفرد هو اللبنة الأولى في المجتمع ؛ لذا تنميته روحياً وسلوكياً يعود مردوده المباشر على المجتمع الذي ينتمي إليه ، وأهم ما ينمي الذات الإنسانية هو ترقيته في باب القيم والأخلاق ؛ فالإنسان إذا تمسك بمكارم الأخلاق تسمو نفسه وتزكو روحه وترتقي أحاسيسه ومشاعره ويتخلص تدريجياً من عبودية الذات والأنانية والسلبية ليجد ذاته مع الآخرين ولا يكتمل وجوده إلا بوجودهم ولا تتحقق سعادته إلا من خلال سعادتهم ،ويبادله الآخرون نفس المشاعر فيجد لحياته معنى ولذاته قيمة ومكانة .
والتقبل الاجتماعي للفرد ليس منحة يمنحها الفرد لذاته ، بل هي محصلة لجهد تهذيبي وسلوكي وأخلاقي يرتقي فيه الإنسان نحو المعاني الإيجابية ، فيأتيه القبول أو التقبل الاجتماعي تلقائياً نتيجة لهذا الجهد ، وهذا التقبل قد لا يحققه الإنسان بماله أو سلطانه أو جاهه ، ولعل هذا المعنى هو الذي أشار إليه النبي r بقوله :  «  إِنَّكُمْ لَا تَسَعُونَ اَلنَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ, وَلَكِنْ لِيَسَعْهُمْ بَسْطُ اَلْوَجْهِ, وَحُسْنُ اَلْخُلُقِ  » ([3])  
وبالمقابل غياب المعيار الخلقي في الذات الإنسانية يميل بها إلى الانعزال نحو الذات والتقوقع حول الشهوات والنزوات والدوافع ، وينحو نحو الأنانية فلا يهتم بالآخرين ولا ينفعل لآلامهم وآمالهم ولا يسهم في حل مشاكلهم ، ويترتب على ذلك انعزاله عن مجتمعه في الجوهر وإن كان ينتمي إليهم في الشكل ([4])   وهذا ينجم عنه إهمال جزء هام من شخصية الإنسان وحرمانه من هويته وتغييب ذاته ، يقول أوجست كانت : « إن النقص الحاصل من إهمال التهذيب أشد وطأة وأضر بالإنسان من نقص التعليم . » ([5])  ، وإذا فقد الإنسان الجزء الحيوي من ذاته وعنوان هويته الإنسانية ، فلا محالة لا يبقى أمامه إلا الجزء البهيمي الذي تهيمن عليه الغرائز ، فيسعى إلى إرضاء نزواته وشهواته  دون النظر إلى الوسيلة والأسلوب ، وهذا من أهم معززات العنف في المجتمع . 
كذلك تسهم القيم في رسم المنحى المثالي للحياة الإنسانية لكي ترتقي لدرجة التكريم التي أنيطت بها ، فرقي الحياة رهن بأخلاقيات الإنسان وقيمه ، وانحدارها رهن بالانحدار الأخلاقي ، وباستقراء التاريخ نعلم ما أدت إليه الأحقاد والبغضاء وحب السيطرة والتسلط ونعرات العنصرية والتجبر والتكبر من حروب ما جرت إليه من ويلات على الحياة الإنسانية أبيدت فيها شعوب آمنة واستعبدت من خلالها شعوب حرة وإهدرت خلالها كل معاني الحياة الإنسانية ، وبالمقابل كان الارتقاء في سلم القيم والأخلاق عبر التاريخ هو ارتقاء في معنى الحياة الإنسانية المكرمة .
كذلك لا يخفى علينا من واقع التجربة ما جر له الانحراف الخلقي في المجتمعات من انزلاقات مفرخة للجريمة فيه بما يسمى بالجريمة المنظمة والعصابات التي استشرى خطرها وضررها تحت حماية مؤسسـات ومنظـمات ، وما نشهده من إشعال للفتن في البلدان الآمنة ومصادرة حقها في حياة آمنة . ([6])
فكل هذه النتائج إنما هي من إفرازات غياب الهوية الإنسانية .
رابعاً : القيم والأخلاق تنمية للمجتمع .
بالنظر إلى جوانب رقي المجتمعات يمكن حصرها في جانبين جوهريين : الرقي   المعنوي و الرقي المادي .وتحققها في مجتمع واحد هو مظهر كمال لهذا المجتمع ، أما إذا كان لا بد من الاختيار بين الجانبين فما من عاقل يختار النموذج الثاني على الأول ، إذ ما فائدة المنجزات التكنولوجية للفرد في مجتمع لا يأمن فيه على ذاته أو حقوقه وحرماته ، أو يفقد فيه كرامته أو دمه وعرضه ، والإنسان بطبيعته لا يستبدل كرامته وحريته بكل أموال الأرض ، وهذا المعنى يشير إليه دوركايم بقوله : « الأمور الأخلاقية لها قيمة لا تقاس بسائر القيم الإنسانية ، وآية ذلك أننا نضحي بأنفسنا من أجلها مما يدل على أنها لا نظير لها ، والعواطف الجماعية هي التي يتوافر فيها هذا الشرط ولأنها الصدى في نفوسنا لصوت الجماعة العظيم . » ([7]) ، ويقول الدكتور ستيفن كوفي : « إن القيمة التنافسية لأي أمة لا  تكمن في إمكاناتها المادية ، يل في قيمها وأخلاقها . » ويقول المفكر الفرنسي جاك بيرك : « أعتقد أن من المستحيل أن يصل شعب من الشعوب إلى مستقبل سليم دون احترام القيم وإحيائها . »  ([8]) ، ويقول مارتن لوثر : « ليست سعادة البلاد بوفرة إيرادها ، ولا بقوة حصونها ، ولا بجمال بنائها ، وإنما سعادتها بعدد المهذبين من أبنائها ، وبعدد الرجال ذوي التربية والأخلاق فيها . » ([9])
بل أظهرت الدراسات أن الإنسان يصبح أقل شعوراً بالاكتفاء عندما تتوفر له الحياة المادية أكثر من ذي قبل ، وأنه مع ارتفاع مستويات المعيشة والتعليم تزداد حالات الأمراض العقلية والعصبية وحالات الانتحار ، مما يدل على أن للإنسان حاجات عليا روحية وعاطفية تميزه عن الحيوان ، ولا يسد عنها إشباع الحاجات المادية . ([10])
و أشارت دراسات علم النفس إلى أنه « لا يستطيع أي مجتمع البقاء والاستمرار ، دون أن تحكمه مجموعة من النظم والقوانين ، التي تنظم علاقة أفراده ، وتكون تلك القوانين والنظم بمثابة المعايير المعتمدة في توجيه سلوكهم وتقويم انحرافاتهم . » ([11])
يتبين مما سبق أن الرقي الحضاري المعنوي للمجتمع هو أهم جوانب رقي المجتمعات ، وهذا الجانب لا يتأتى الوصول إليه إلى المستوى المنشود إلا إذا ترسخت القيم والأخلاق في عموم المجتمع ، بحيث يطمئن كل إنسان إلى أخلاقيات التعامل داخل المجتمع فلا يخشى الغدر أو الغش والتزوير ، او انتقاص حقوقه ، فتعم الجميع ثقة متبادلة تصل إلى درجة تصبح من مسلمات المجتمع ، كذلك التربية الخلقية لها أثر واضح في تغيب أو تذويب الدوافع الشخصية كتغليب المنفعة الذاتية والمصلحة الشخصية لتحل محلها دوافع الحق والواجب والعدل والخير .  ([12])
 ويمكن تلخيص أثر القيم والأخلاق على تنمية المجتمع وأثر ذلك على ثقافة السلام  في الأمور التالية :
1-        تأسيس العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع على أسس أخلاقية يسهم في توفير مقومات القوة والرقي للمجتمع من خلال مناخ إيجابي في المجتمع مبني على أساس التآلف والمحبة والتعاون والتضامن ، والاستعداد الجمعي لمواجهة التحديات المتنوعة التي تعصف بالمجتمع ، وشيوع الأساليب السلمية في حل مشكلاته .
2-        تجسيد القيم والأخلاق في المجتمع تسهم في تعزيز روح  التنافس الخيِّر بين أفراده ، وتخفف من عبء وتكاليف غياب الوازع الأخلاقي على مستوى الأمن الاجتماعي ، أو على المستوى التربوي ، أو الإصلاحي والعقابي ، وتساهم في تعزيز القوى المعنوية الدافعة للمجتمع نحو الارتقاء والتطور ،  كذلك توفر القيم للمجتمع حصانة داخلية من أي اختراق خارجي يهدف إلى تفتيته أو استنزاف ثرواته ،أو تمزيق عناصره، أو بذر الفتنة بين شرائحه .
 د. محمد المبيض                                  كتابه ثقافة السلام عند رسول الإسلام 



([1]) انظر توفيق : التأصيل الإسلامي للدراسات النفسية ( 332 وما بعدها )
([2])  الشيباني : فلسفة التربية الإسلامية ( 226 )
([3])  رواه أبو يعلى والبزار من طرق أحدها حسن جيد؛و حسنه الألباني [ صحيح الترغيب والترهيب برقم 2261 ] 
([4]) انظر الأسمر : فلسفة التربية الإسلامية (408)   
([5])  قرعوش وآخرون : الأخلاق في الإسلام ( 25)
([6])  انظر الأسمر : فلسفة التربية الإسلامية ( 408 ) 
([7])  انظر : ناصر : التربية الأخلاقية 146
([8])   انظر  جواد : دوافع الالتزام الخلقي ( 19)
([9])  انظر قرعوش وآخرون : الأخلاق في الإسلام ( 25)
([10])  الكيلاني : فلسفة التربية الإسلامية ( 439)
([11]) القشعان : المشكلات الأخلاقية في المجتمعات الإسلامية وسبل معالجتها ( 2) 
([12])  حنبكة : الأخلاق الإسلامية ( 1/34) 

العظمة ( منهج النبي في التربية وتعزيز الأخلاق )


منهج النبي r في رعاية قيم المجتمع وأخلاقه وتعزيزها
 لاحظنا كيف مزجت الرسالة بين القيم والأخلاق من جهة ، وبين العقيدة والعبادة من جهة أخرى على اعتبار أن رعاية القيم هو جزء من عقيدة الإنسان وعبادته لربه ، وهذا أكسب القيم قدسية ملزمة للأفراد ، وعزز الضمير الخلقي والحارس الإيماني في كوامنهم ؛ خاصة أن هذا النهج قد بين أن مدار فلاح الإنسان وبواره هو بمدى تمثله بالقيم من الناحية العملية .
إضافة إلى ذلك نَوّع النبي r من الأساليب المعززة للقيم الخلقية في المجتمع ضمن منهج متكامل يمكن بيان خطوطه العامة فيما يلي :
أولاً : تعزيز القيم والأخلاق من خلال القدوة العلياً .
المعلوم أن التربية بالقدوة هو أنجع الوسائل التربوية ، وعلى قدر كمال القدوة وقدرتها في التأثير يكون الأثر في الأتباع ، فكيف إذا كانت القدوة هي المثال البشري الأعلى الذي اصطنعته العناية الإلهية ليكون أسمى مظهر من مظاهر التمثل الخلقي ، قدوة وصفها خالقها بقوله : « وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ » ([1])  ؛ لذا كان الصحابة الكرام يتنافسون على الفضيلة والأخلاق والقيم التي تدنيهم من القدوة العليا ، وهذا يفسر حجم  هذا الجيل الفريد غير المتكرر الذي اصطنعه محمد r والذي أصبح منارة في القيم والأخلاق والفضيلة للبشرية جمعاء ،وهذا واقع لا ينكره الداني والقاصي.
ثانياً : تعزيز التنافس على الفضيلة ببيان عظمة منزلتها .
المعلوم أن النفس البشرية جبلت على حب من أحسن إليها ، وقد استشعر الصحابة الكرام عظيم  المنة والإحسان الذي أسبغه عليهم النبي محمد r بهدايتهم إلى الحق والفضيلة ؛ لذا هاجت أرواحهم وأفئدتهم حباً للنبي r ، وعزز ذلك الارتباط العقدي بين حب النبي r وبين الإيمان ، يقول r : «  لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ . » ([2]
فالارتباط العقدي بين محبة النبي r وبين الإيمان ، وحسن أخلاق النبي r وعظيم إحسانه لمن حوله كل هذه العوامل كانت سبباً في تفجير ينابيع المحبة في قلوب الصحابة للرسول الأعظم والحرص على إرضائه وتقديم محابه على محابهم .
وهذا الاستعداد النفسي للصحابة الممزوج بالشوق والحزن من حرمانهم من رؤية النبي r في الجنة أو مجالسته فيها لعلو منزلته فيها جعلهم يبحثون عن الوسائل التي تقربهم من النبي r في الجنة ؛ لذا بين النبي r أن من أعظم أعمالهم التي تستحق أن يتنافسوا فيها والكفيلة بارتقائهم في الجنة في أعلى الدرجات ، وتكون سبباً في فوزهم برؤية النبي r ومجالسته في الجنة هو الارتقاء في سلم الفضيلة ومدرج الأخلاق والقيم  ، فيقول : «   إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا ، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ  . قَالُوا  : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ ؟ قَالَ الْمُتَكَبِّرُونَ»([3])
وهذا النهج كان له أثره في اهتمام الصحابة في جانب الارتقاء الخلقي ، بل في التنافس في سلم الفضائل .     
ثالثاً : بيان المقصد الأسمى  لبعثة النبي r .
المعلوم في التربية أن عدم تحديد هدف للعمل التربوي يفضي للتخبط والعشوائية ، ويفصل بين الإجراءات والأساليب والوسائل من جهة وبين النتاج التربوي المتوقع حصوله ؛ لذا يحرص التربويون في بداية أي جهد تربوي على وضع الأهداف الرئيسة ثم الأهداف المرحلية ثم الأهداف الفرعية ، والأصل في الأهداف الفرعية والمرحلية أنها تغذي الهدف الرئيس وتعزز من تحقيقه ، فهو الأمل المنشود والنتاج المطلوب .
وهذا الفقه التربوي لم يغب عن صاحب الرسالة ؛ لذا حرص على وضع هدفٍ رئيسٍ لبعثته ومقصد أسمى لرسالته تدور في فلكه كل الجهود والإجراءات التربوية والتزكوية ، وقد بين الرسول الأعظم أن  المقصد الأسمى لرسالته هو نشر الفضيلة وتتميم مكارم الأخلاق : «   إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ – في رواية صَالِحَ  - مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ »  ([4]) ؛ وبهذا الأسلوب استطاع النبي r توجيه الجهود نحو امتثال الفضيلة وتنفير النفوس من الرذيلة ، وفيه تأكيد على أن الرسالة معنية باستقصاء الجانب الخلقي وتتميمه والارتقاء به من جميع الجوانب ، وهذا يفسر لنا تلك المساحة الواسعة والتفصيلية للقيم والأخلاق في رسالة محمد r ، ومن الأخلاق الذي دعا إليها واجتهد على تعزيزها بين المسلمين : بر الوالدين ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار والأمانة والصدق والكرم والإيثار والعدل والاعتدال ، والإخلاص والتواضع ، ومقابلة السيئة بالحسنة ، و التجاوز عن هفوات الآخرين ، والرضا بالقليل ، والقناعة بما قسم الله ، وكظم الغيظ ، والعفو ، وإحسان الظن ، ومقابلة الغير بالبشاشة ، والرحمة بخلق الله ، والإصلاح بين العباد ، والوفاء بالعهد ، وإنجاز الوعد ، وتحرير النفس من ربقة الشهوات ومراقبتها في الله ، واللين في القول ، والرفق في المعاملة ، ونصرة المظلوم وإجابة الدعوة وإغاثة الملهوف ...
ومن الأخلاق الذميمة التي نهى عنها : الفسق والعصيان والفحش في القول
والعمل ، وغلظة القلب ، والبخل والشح ، والكبر والحقد والحسد والرياء ، والسخط والغضب ، والفظاظة والوقاحة وقلة الحياء ، والكسل والبطالة ، والعناد والمكابرة في الحق ، والنميمة والسخرية والغيبة والاستهزاء بالغير أو استصغارهم ، واللعن واللمز والتعيير ، والطيش والخفة ، والطيرة والتشاؤم والشماتة والتهور ، والكذب وشهادة الزور وإفشاء السر ن والتشاحن والبغضاء أو الاستطالة على الأعراض ، والمن بالصدقة أو كفران النعمة ، و الخيانة والمكر والخديعة ، وبخس الكيل والغصب والرشوة  ... إلخ
ومن تتبع هدي النبي r  يجد أنه قد أشبع التفصيل والاستقصاء في الأمر بالفضيلة وإن صغرت  أو النهي عن الرذيلة وإن قل خطرها  .
رابعاً : تنويع الأساليب والإجراءات والوسائل المعززة للقيم والفضائل في المجتمع .
هذا باب لا يمكن استقصاؤه من حياة محمد r ؛ لأن كل ثانية من حياة النبي الأعظم خلال الثلاثة وعشرين سنة من رحلة النور في بعثته كانت تتضمن أسلوباً أو إجراءً يعزز الفضيلة في المجتمع ، من ذلك استخدام الأسلوب القصصي الشيق لتعزيز الفضيلة ، كقصة الثلاثة الذين آواهم المبيت بالغار التي تبرز الأثر المبارك للفضيلة والمنجي لصاحبه من الهلاك ، وبعضها يبرز أثر الفضائل والقيم في دوام النعم منها قصة الأقرع والأعمى والأبرص ، وبعضها يبرز أثر التمسك بالفضيلة وعاقبة ذلك على صاحبها مثل قصة الغلام والساحر ،  وبعضها يبرز الأثر الطيب للوفاء والأمانة كقصة الرجل الذي استلف ألف دينار ولم يستطع ردها في موعدها  .. إلخ
كذلك استخدم الحوار في التربية والتزكية الخلقية من ذلك قصة الفتى الذي طلب من النبي r أن يأذن له بالزنا فحاوره النبي r حتى أقنعه بالعفة ، ومن ذلك أسلوب العرض الاستفهامي الشيق  كقول النبي r : أتدرون من المفلس ؟ ومن ذلك قوله r : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟  ومن ذلك أيضاً الوصية عند الحاجة إليها من السائل ، ومثالها الرجل الذي طلب من النبي أن يوصه ، فقال له النبي r : لا تغضب ، وقد كان يتنوع العلاج لصحابته بحسب اطلاعه على أحوالهم ، لذا كانت إجابته تختلف على نفس الطلب ، وفي الغالب كان المنهج العلاجي والوصية يتركزان على جانب التزكية الخلقية .
وهكذا تتنوع الوسائل والأساليب النبوية المعززة للفضيلة والمنفرة من الرذيلة ، وهذا نزر قليل ذكرته للتنبيه إلى عظمة الجهد النبوي في التأكيد على القيم وتجسيدها في المجتمع  .


([1]) القلم : الآية 4
([2]) أخرجه البخاري برقم 15   ( 1/14)   
([3]) أخرجه الترمذي برقم   2018 ، وقال : حديث حسن غريب   ( 4/370)  
([4])  سبق تخريجه   

منهج النبي عليه السلام في تعزيز الضمير الخلقي والحارس الإيماني


جهد النبي r لتعزيز الضمير الخلقي والحارس الإيماني .
يقصد بالضمير الخلقي : ذلك الوازع الداخلي الذي يراقب من الداخل أعمال الإنسان الخارجية فيحكم له أو عليه ، أو هو مركز التوجيه في الإنسان يعظه ويوجهه ويقود نياته ومقاصده وأفعاله ، ويضيء علاقته بربه أو بالآخرين ، أو هو الشعور النفسي الداخلي الذي تنعكس عليه أعمال المرء فيرى فيها تقدير هذه الأعمال ويتسنى له أن يحكم عليها بالخير والشر ([1])
و الضمير الخلقي أمر خفي وقوة معنوية في أعماق الإنسان تصده عن العمل القبيح وتحرضه على التصرف الحميد ، وهو بذلك الشريان الحيوي المعزز لتجسيد القيم في أرض الواقع ؛ لذا اهتم النبي r بتفعيله وتحفيزه بعدة وسائل منها :
أ‌-      التأكيد على الرقابة الربانية لأفعال الإنسان وأقواله : وهذه الفقرة توسعت فيها النصوص القرآنية التي تؤكد على وجود إله مطلع على كل خفايا النفس ومراقب لكل صغيرة وكبيرة تصدر عنها منها قوله تعالى : « يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ » ([2]) « قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ » ([3]) « وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى » ([4])    « إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ » ([5]) فالحافظ هنا على رأي كثير من المفسرين هو الرقيب « وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ » ([6]) « وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً » ([7]) « وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً » ([8]) « مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ » ([9]) فهذه النصوص تشير إلى الرقابة الربانية لسلوك الإنسان ودوافعه إلى ذلك السلوك مع تأكيدها على تسجيل السلوك الظاهر والباطن ، ويعتبر هذا الجانب من أهم محفزات الضمير ، وبدونه لا يمكن تصور حقيقي للضمير الخلقي ؛ لذا يقول أحد الحكماء : « إن ضميراً بلا اعتقاد في الله يكون كمحكمة ليس بها قضاة . » ([10])   
ب‌-           ربط الضمير الخلقي بالترهيب والترغيب ، والمحاسبة على بواعث السلوك :  من ذلك قول النبي r  : «  إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ » ([11]) والعلماء على أن هذا الحديث يمثل ثلث الدين ، ويدخل في كل أبوابه ، ومضمون الحديث على أن المحاسبة يوم القيامة تكون على النوايا ، وأنه لا ينظر للعمل الصالح إذا كانت بواعثه غير صادقة ، وهذا من شانه أن يجعل الضمير الخلقي منتبهاً في جميع الأحوال ، وقد بينت بعض الآيات أن الإنسان إذا أهمل ضميره الخلقي فإنه يكون يوم القيامة من الخاسرين يقول الله سبحانه وتعالى : « وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ » ([12]) « قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً » ([13]) فهذه النصوص وغيرها كثير كفيلة بإضفاء الحيوية والانتباه الدائمين للضمير الخلقي ليؤدي دوره المنشود في الحياة .
ت‌-            ربط الضمير الخلقي بالسلوك الخلقي ، ولعل أهم دليل على ذلك قول النبي r : «   اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ  » ([14]) فهذا الحديث يمثل قاعدة ذهبية من ثلاث عناصر كفيلة بتحقيق الإصلاح الخلقي وتحفيز الحارس الداخلي في الإنسان ، وقد أسماه ابن تيمية الوصية الجامعة لخيري الدنيا والآخرة ، فالحديث تضمن تحفيز الحارس الداخلي بدعوة النبي r لتقوى الله في كل مكان ؛ أي خشيته في كل حال سواء اطلع عليه الناس أم لم يطلعوا ، ثم انتقل الحديث إلى نهج إصلاحي براعي حال الإنسان وواقعه وطبيعته التي لا تخلو من اجتراح السيئات ؛ لذا لم يقل لا تقع بالسيئة ، بل طالبه حال الوقوع بالسيئة أو المعصية بأن يتبعها بعمل خير أو بالحسنة ليدفعها أو يرفعها ، وهذا منهج إصلاحي ينمي الخير ويقلل من تبعات الشر وآثاره ،  ثم انتقل الحديث إلى الأخلاق العملية بوصية جامعة تطالبه بمخالقة الناس بخلق حسن .
هذه بعض معالم الجهد النبوي في تعزيز الضمير الخلقي في المجتمع ، والضمير الخلقي من أهم عوامل الالتزام الخلقي ، وبدونه يكون الالتزام مترهلاً و مشكوكاً فيه ، بل فقدان الضمير الخلقي يترتب عليه انهيار البنيان الاجتماعي للإنسان ، يقول ألكسيس كاريل : « إن الإحساس الأدبي– أي الضمير الخلقي -  أهم بكثير من العقل ، وحينما يفقد هذا الإحساس من أحد الشعوب ، فإن كيانه الاجتماعي كله يبدأ بالانهيار البطيء . » ([15]) بل نلحظ أن فولتير أحد فلاسفة الثورة الفرنسية لم يتجرع فكرة الإلحاد لما يعلمه من نتائجها المدمرة على الضمير فبحث عن الإيمان بطريقة الفلسفة النفعية فيقول : « لو لم يكن الإله موجوداً ، لوجب اختلاقه ، لأنه لولا الله لخانتني زوجتي ولسرقني خادمي . » ([16]) فهذه الكلمات وإن تضمنت إلحاداً إلا أنها تعكس بنفس الوقت مدى الأثر السلبي على مستوى الإنسانية عند فقدان الضمير الخلقي المؤسس على الإيمان بالله ، خاصة أن الضمير الخلقي وما يمليه من سلوكيات خارج عن الإلزام القانوني ؛ لذا يحتاج نهجاً إلزامياً خارج رقابة القانون ، يقول ألكسيس كاريل : « إن الدولة قادرة على فرض القانون على الشعب بالقوة ولكنها لا تستطيع أن تفرض عليه الأخلاق . » ([17]) وهذه مسلمة لأن الإنسان في ظل القوانين الوضعية يعلم أن هذه القوانين لا تعلم ما في نفسه ، ولا تملك سلطة على ضميره ؛ لذا يملك ارتكاب أبشع الحماقات ما دام بعيداً عن نظر القانون ولا يقع تحت طائلته .
ومن هذا الوجه نعرف مدى حيوية رسالة محمد r  وتأهلها المثالي لرعاية القيم في المجتمع ، إنها أهلية لا تملكها كل نظم الأرض ، ولا تستوعبها من جميع جوانبها كل أديانه .


([1])انظر الشيباني : فلسفة التربية الإسلامية (257) ؛ الأسمر : فلسفة التربية الإسلامية ( 436)
([2])  غافر : الآية 19
([3])  آل عمران : الآية 29
([4])  طه : الآية 7
([5])  الطارق : الآية 4
([6])  ق : الآية 16
([7]) النساء : الآية 1 
([8])  الأحزاب : الآية 52
([9])  ق : الآية 18
([10]) الشيباني : فلسفة التربية الإسلامية ( 437) 
([11]) أخرجه البخاري  برقم 1 ( 1/3)
([12]) الزمر : الآية 47 
([13]) الكهف : الآيات 103 -104
([14])  أخرجه الترمذي برقم 1987 ، وقال حسن صحيح ( 4/355) 
([15])  كاريل : الإنسان ذلك المجهول ( 153)
([16]) الإدريسي : الأخلاق بين الأديان السماوية والفلسفات البشرية ( 3) 
([17])  كاريل : الإنسان ذلك المجهول ( 152)