السبت، 2 يونيو 2012

منزلة العدل في رسالة الإسلام



لأهمية العدل وحيويته في الحياة الإنسانية تنوعت تعاليم الإسلام – خاصة النصوص القطعية منها - المبرزة لعظيم منزلته وضرورة إقامته لكي تستقيم حياة الإنسان ضمن منظومة الكون والحياة ، وأمكن بيان منزلة العدل في الإسلام في البنود التالية . 

أولاً :  قيام السموات والأرض وجميع الخلق على مبدأ العدل الإلهي :
يقول الله I :  « وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ،  وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ  » ([1])  الميزان في الآية هو العدل ، وقد بينت الآية أن رفع السماء ومنشأ الكون إنما كان بالعدل وبميزان دقيق ، وأن غياب العدل يترتب عليه الطغيان والخلل في عجلة الحياة ومنظومة السنن الكونية ؛ ([2])   لذا جاء التحذير من الطغيان مباشرة بعد ذكر مبدأ خلق الكون ،  نقل الطبري عن قتادة قوله : «   ألا تطغوا في الميزان : اعدل يا ابن آدم كما تحب أن يعدل عليك ، وأوف كما تحب أن يوفى لك ، فإن بالعدل صلاح الناس » ([3]
ثانياً :  أهل العلم  هم الأكثر شهوداً لمبدأ العدل الإلهي .
يقول الله I :  «  شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ  »  ([4]) فالآية تشير إلى أن العلماء بعد شهادتهم على توحيد الله يرون ميزان العدل والقسط الإلهي الذي تخضع له نواميس الكون وعجلة الحياة الإنسانية ، فالكون كله قائم على العدل ، ومقتضى الآية أن انسجام الإنسان مع الكون الذي يخضع لنواميس عادلة لا يمكن تحقيقه إلا بإقامة العدل في الأرض ؛ كذلك الآية تشير إلى أن العدل هو أعظم مشهود في الكون مع التوحيد ؛ لذا أشهد الله I عليه عدول أهل السماء من الملائكة وعدول أهل الأرض من العلماء  .
ثالثاً :  الله هو العدل ، ويحرم نقيضه  على نفسه وبين خلقه . 
من أسماء الله I العدل ، ومن صفاته أنه قائم بالقسط ؛ لذا يحرم الظلم على نفسه وبين خلقه
، يقول الله I : «  إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ  »  ([5]) ويقول في حديث قدسي : « يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ اَلظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي, وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا, فَلَا تَظَّالَمُوا . » ([6]) ومعنى الحديث أن الله I تقدس وتعالى وتنزه عن الظلم ، وحرم الظلم بين عباده لأنه نقيصة ونقيض العدل الذي يأمر به الله I ،([7])  وتحريم الظلم بين العباد يقتضي تحري العدل في كل تصرفاتهم وإلا كانت الخيبة و الخسران ، يقول الله I : « وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً » ([8]) . 

رابعاً : العدل قيمة عليا أكدت عليها جميع الشرائع والكتب السماوية .  
يقول الله I :  «  لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ  »  ([9])  مضمون الآية يشير إلى أنه ما من كتاب أنزل ولا نبي أرسل عبر رحلة الحياة إلا لإقامة العدل ، فإقامة العدل وإشاعته بين الناس والأمر به هي غاية عظمى وهدف أسمى لكل بعثة الرسل ، بل الآية توحي بأن إقامة العدل هو إقامة لشرع الله I ، وقد نبه لذلك ابن تيمية بقوله : « .. فَالْكِتَابُ وَالْعَدْلُ مُتَلَازِمَانِ وَالْكِتَابُ هُوَ الْمُبَيِّنُ لِلشَّرْعِ ؛ فَالشَّرْعُ هُوَ الْعَدْلُ ، وَالْعَدْلُ هُوَ الشَّرْعُ ، وَمَنْ حَكَمَ بِالْعَدْلِ فَقَدْ حَكَمَ بِالشَّرْعِ . »  ([10])  

خامساً :  أهم ما يميز أمة الإسلام أنها أمة عدل واعتدال  .  
يقول الله I :  «  وَكَذَلِـكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُـونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً   »  ([11])  الوسط في الآية يراد به العدل كما يرى أكثر المفسرين  ([12]) ، ويكون المراد من الآية الإشارة إلى أن هذه الأمة الخاتمة للأمم تميزت بالعدل الذي هو مناط الفلاح ، وبه تصبح شاهدة على جميع الأمم   ، وما دامت شاهدة على الأمم من خلال معيار العدل ؛ لذا يعتبر العدل من أهم الموازين التي توزن به الحياة الإنسانية ، وهذا يوحي بوجوب إقامته في الأرض .  ([13]

سادساً : آية العدل هي أجمع آية في القرآن .  
يقول الله I : « إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ  »  ([14])  يقول ابن مسعود t : « أجمع آية في القرآن بخير وشر إن الله   يأمر بالعدل و الإحسان » ([15]) وهذا من فقه ابن مسعود t فالعدل هو إيتاء الواجب ، والإحسان هو الفضل ، وبمهما تنتظم كل فضيلة متصورة ، والفحشاء والمنكر والبغي هما جماع كل رذيلة متصورة .
وكون الأمر بالعدل وتقديمه على غيره من أجمع الأوامر الربانية يقتضي أن يكون العدل هو القيمة العليا التي تدور حولها وفي فلكها باقي تعاليم الرسالة . 
سابعاً :  غياب العدل يترتب عليه الفناء والهلاك وسوء العاقبة في الحال والمآل .
العدل والقسط يقابلهما الجور والظلم ، وغيابهما يقتضي انتشار الظلم وآثاره ، وقد بينت الآيات  أن الظلم هو منشأ الفساد المفضي للهلاك على مستوى الأفراد والجماعات ، من هذه النصوص : « فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً  » ([16]) « وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ  » ([17]) « وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ » ([18]) « قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً  » ([19]) « وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً  » ([20]) « فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ  » ([21]) « وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ » ([22]) « وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ » ([23]) « وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً  » ([24]) « وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ » ([25])
هذه بعض الآيات التي تبرز عاقبة الظلم والظالمين ، ويلحظ على مجموعها أن غياب العدل والاستعاضة عنه  بالظلم على مستوى الفرد والمجتمع يفضي للهلاك والبوار وسوء التوفيق في الدنيا والعقاب في الآخرة ، يقول ابن خلدون : «  .. واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري، وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة، من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. فلما كان الظلم كما رأيت مؤذناً بانقطاع النوع لما أدى إليه من تخريب العمران، كانت حكمة الحظر فيه موجودة، فكان تحريمه مهماً. وأدلته من القرآن والسنة كثيرة أكثر من أن يأخذها قانون الضبط والحصر . » ([26])
إعداد الدكتور محمد المبيض     كتابه ثقافة السلام عند رسول الإسلام 


([1]) الرحمن : الآيات 7-9
([2]) انظر ابن كثير : تفسير القرآن العظيم ( 4/111) ؛ القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ( 17/159)
([3]) الطبري : جامع البيان ( 27/118)
([4]) آل عمران : الآية 18
([5]) يونس : الآية 44
([6]) أخرجه مسلم برقم 2577 ( 4/1994)
([7]) النووي : شرح مسلم ( 16/132) ؛ الصنعاني : سبل السلام ( 4/192)
([8]) طه : الآية 111
([9]) الحديد : جزء من الآية 25
([10]) ابن تيمية : مجموع الفتاوى ( 35/336)
([11]) البقرة : جزء من الآية 143
([12]) انظر الطبري : جامع البيان ( 3/143) ابن كثير : تفسير القرآن العظيم ( 1/455)  ؛ السيوطي : الدر المنثور ( 2/17)
([13]) الصلابي : الوسطية ( 117)
([14]) النحل : الآية 90
([15]) ابن كثير : تفسير القرآن العظيم ( 4/60)
([16])  النساء : الآية 160
([17]) الأنعام : الآية 21
([18]) الأنعام : الآية 93 
([19]) الكهف : الآية 87
([20]) الفرقان : الآية 19
([21])  الأنعام : الآية 45
([22])  الأعراف : الآية 165
([23])  هود : الآية 113
([24])  الكهف : الآية 59
([25]) سبأ : الآية 19
([26])  ابن خلدون : المقدمة ( 288) 

ليست هناك تعليقات: