السبت، 9 يونيو 2012

آثار قيم ثقافة السلام المهيمنة على حروب النبي عليه السلام




بينت سابقاً أن ثقافة السلام في رسالة محمد r محكومة بقيم متعددة تكفل تفعيلها بأرقى صورة ، من هذه القيم العدل والتسامح والرحمة التي تعتبر عنوان لرسالة محمد r ، إضافة إلى رعاية الأخلاق التي تعتبر مقصداً هاماً لبعثته .
فهذه المنظومة المتكاملة كان لها أثرها المباشر على حروب النبي r ؛ بل كان حظها في الحرب أولى من حظها في السلم ، وذلك لما تتسم به حـالة الحرب من تجاوزات أخلاقية تتطلب ملاحقتها والحد منها .
ولعل هذا يفسر لنا عاملاً من عوامل تأخر الإذن بالقتال إلى مراحل متأخرة من حياة النبي r؛ أي بعد مرحلة تربية أخلاقية مبنية على  الصفح وكظم الغيض والعفو والسماحة والرحمة والتجاوز عن أخطاء الغير والصبر عليهم وتغليب الجوانب الإيجابية الحريصة على هداية الغير ، فهذه التربية تشبعها أتباع النبي r على مدى خمسة عشر عاماً قبل الشروع في أول مواجهة حقيقية في غزوة بدر سنة 2 هـ ، والمعلوم تاريخياً أن المواجهة العسكرية لم تنشأ مع نشأة الرسالة ، بل كانت في مراحل متأخرة من الرسالة ،وكثير منها كانت دفاعية ، ووقعت بعد تربية أخلاقية عالية للأتباع .
ومنعاً من تكرار الأفكار أقتصر هنا على بيان الآثار المترتبة على هيمنة تلك القيم على حروب النبي r ، وذلك في النقاط التالية : 

أولاً :  أثر هيمنة  فكر الرحمة على أدبيات الحرب وأخلاقياتها.

اعتبار الرحمة عنوان رسالة محمد r كان له الأثر الكبير في تحديد أخلاقيات الحرب ، وهيمنة المثالية عليها بشكل لم يعهد في التاريخ ، ولعل من أهم الآثار المترتبة على ذلك ما يلي :
1-             تغليب جانب الإحسان المبني على العفو والسماحة، وذلك في حق الأمم المهزومة .
2-     تغليب حالة السلم على الحرب ، والتأكيد على المصالحة وتجنب الفكر العدائي ، وهذا له الأثر في حسر دائرة الحرب في أضيق صورها .
3-             حسم دواعي التسرع  في القتل أو الانتقام عند جيش النبوة .
4-     منع بعض التصرفات السلبية الدالة على القسوة والهمجية في الحروب كالتمثيل بالجثث أو التدمير للممتلكات ، أو تجاوز حدود الحرب في النكاية بالمدنيين ، فهذه التصرفات كلها مبنية على القسوة ، وهي منافية لفكر الرحمة المهيمن على الرسالة وصاحبها .
ثانياً:أثر هيمنة الأخلاق على تعزيز ثقافة السلم في حروب النبي r :   
يتفرع على الأصل الأخلاقي العام الذي يحكم رسالة الإسلام الأمور التالية :
1-     الأخلاق عنصر أصيل في رسالة محمد r وهي معيار الفلاح أو الهلاك للأتباع ، وهذا الأصل يحكم حالة السلم ، وحالة الحرب من باب الأولى  .
2-     نال الصحابة تربية أخلاقية عالية قبل شروعهم بأي مواجهة عسكرية واستمرت تلك التربية خلال الحروب في الجانب التأصيلي والإرشادي والتوجيهي والتقويمي ، ولم يغفل هذا الجانب لحظة واحدة خلال رحلة الرسالة ، وهذا كان له الأثر الكبير في مثالية جيش النبي r وقلة التجاوزات التي وقع فيها أفراده عبر الحروب .
3-     نال الجانب التطبيقي للمعايير الأخلاقية قدسية دينية تجعل التهاون فيه في حالة الحرب والسلم مدعاة لهلاك صاحبه أو نقصان أجره ، وهي بذلك تختلف عن أخلاقيات الحرب في القوانين الدولية المتضمنة على نصوص توافقية بين الدول قد لا تجد احتراماً من الأقوياء ، ويسهل تغييبها والتحايل عليها ، وشتان بين مراقبة الضمير داخل الإنسان وبين مراقبة القوانين التي لا تحظى بأي قدسية ملزمة في الضمير الإنساني خاصة إذا اصطدمت مع المصالح والمطامع .
4-     تأخر تشريع القتال إلى مراحل متأخرة ساعد على انسلاخ الصحابة من أخلاقيات الجاهلية وتشبعهم بأخلاقيات الرسالة الداعية إلى الرحمة والصفح والاعتدال و حسم الدواعي الانتقامية وتغليب المصلحة الدعوية على المكاسب المادية .
5-     كان للتربية الخلقية العامة أثرها في أدبيات الحروب التي خاضها الصحابة خلال تعاملهم مع الأمم الأخرى ، فلا خيانة ولا غدر ولا اغتصاب ولا نهب ولا هتك أعراض ، ولا شتائم وإيذاء لفظي ، ولا تعذيب ، ولا تشويه وتمثيل ، ولا غلو وإمعان في القتل ، ولا قهر و إهانة للمهزوم ... وهذه الأدبيات بهذا الاتساع أضفت مثالية غير معهودة على أخلاقيات الحرب في السيرة النبوية .
6-     كان للجانب الخلقي في رسالة الإسلام أثره الكبير في رعاية المسلمين للمواثيق وحفظهم للعهود مع الغير والحرص على تطبيقها بأكمل صورة ، وانعكس بشكل واضح على معاملة الأسرى ، ودفن موتى المشركين .
7-     كان للقيم والأخلاق المهيمنة على حروب النبي r أثره المباشر في حسر دائرة العدائية بأضيق صورها مما يعطي فرصة عظيمة لتحقيق السلم بين المجتمعات .  
ثالثاً : أثر مبدأي العدل والإحسان على أخلاقيات الحرب .
يعتبر مبدءا العدل والإحسان وارتقائهما في أعلى سلم أولويات الفضائل في رسالة الإسلام من أعظم الروافد المعززة  لثقافة السلم في حروب النبي r من خلال رعاية الأدبيات التي تحسر دائرة العنف بأضيق صورها  ، بل مبدءا العدل والإحسان كانا يحكمان كل خطوات النبي r وصحابته الكرام في حروبهم جميعاً ، ولعل من أهم آثار هذا الرافد ما يلي :
1- مبدأ العدل حدد دواعي المواجهة العسكرية وضبطها ، ومنع من تجاوزها حدودها ، وحسر الفكر العدواني بل ألغاه من سائر حروب النبي r ؛ إذ لا يتصور إقامة العدل من خلال العدوان على الغير بغير حق .
2- مبدأ العدل حسر دائرة التجاوزات الأخلاقية ، ومنع وقوعها إلا في حالات الخطأ أو التباس الأمر من بعض الجند ، فالأمر بالعدل يتنافى كلياً مع تجاوز الحدود الأخلاقية في المعارك ، بل يتنافى كلياً مع أي تجاوز متصور في المعارك  ؛ لأن التجاوزات تدخل في باب الظلم ، والظلم نقيض العدل . 
3- مبدءا العدل والإحسان منعا من تفشي ثائرة الانتقام والتشفي في جيش النبي r ، وذلك للتناقض التام بين العدل والانتقام ، كذلك منع من ظاهرة الغلو والإمعان في القتل في الأعداء . 
4-  للعدل أثره في قصر ظاهرة المواجهة مع المقاتلين فقط ، وعدم تجاوزها نحو المدنيين أو الممتلكات العامة والخاصة .
5- للإحسان أثره الواضح في تغليب حالة السلم على الحرب ، ومعاملة الأسرى بالحسنى ، وعدم خضوع كثير من التصرفات الحربية لمبدأ المعاملة بالمثل لمنافاتها للفضيلة التي يدعو لها الإسلام .    

ليست هناك تعليقات: