السبت، 9 يونيو 2012

كمال أخلاق النبي محمد عليه السلام


كمال خلقه .
لعل أبلغ وصف لخلق النبي r هو ما وصفه به ربه بقوله : } وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ  { ([1])  وإنما كان خلق النبي r عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق كلها فيه ، و قد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي r  فقالت : « كان خلقه القرآن » ([2]) وكما أن معاني القرآن لا تتناهى كذلك أوصاف النبي r الدالة على خلقه العظيم لا تتناهى ؛ إذ في كل حال من أحواله r يتجدد له من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ، وما يفيضه الله عليه من معارفه وعلومه ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى ، والتعرض لحصر جزئيات أخلاقه الجميلة تعرض لما ليس بمقدور الإنسان ، وقد كان r مجبولاً على الأخلاق الكريمة في أصل خلقته النقية الزكية ، ولم يحصل ذلك برياضة منه ، بل بجود إلهي ، حتى بلغ في خلقه الغاية العليا والمقام الأسنى .
ولعل أعظم دليل على كمال خلقه وسموه ما يرشدنا إليه حسن تدبيره للعرب الذين كانوا كالوحوش الشاردة في طباعها النافرة المتباعدة ،  وكيف ساسهم واحتمل جفاهم وصبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه والتفوا حوله وقاتلوا دونه أهليهم واختاروه على أنفسهم ، وهجروا في رضاه أوطانهم ، كل ذلك حصله النبي r بكريم خلقه وبعظيم خصاله ، وبمديد صفحه ولينه ، يقول الله سبحانه وتعالى : } فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ . { ([3])
فهذه الرحمة التي كانت من أجل خصائصه الخلقية هي التي ألفت بين المتنافر ، وردت الشارد وهذبت السلوك حتى أضحى العرب منارة للعلم والحضارة وأئمة يقتدى بهم في الأخلاق والفضيلة بعدما كانوا كلاب الصحراء وأكلي الجعل .
هذه نظرة مجملة لخلق النبي r ، ولو استقرينا الفضائل بطريقة تفصيلية لوجدنا النبي r قد نال من كل فضيلة أعلاها حتى أصبح فيها علماً يقتدى به وغاية يرتجى الاقتراب منها لا بلوغها ، فبلوغ غاية الفضائل وأعلاها اختص به النبي محمد r دون سائر البشر ، ففي الصبر وجدنا النبي r قد بلغ منتهاه حيث صبر على إيذاء قومه ، وكان صبره صبر الكرام ، ولم تورثه عظمة الإيذاء وشدته الضغينة في قلبه ، بل حاز الكمال في العفو والتسامح ، ونراه يصفح ويعفو بل يكرم من آذاه ويتحبب له ، وكان ينسل من قلب عدوه أي عداوة له بكريم صفحه وبعظيم كرمه ، وفتح مكة وغزوة حنين أكبر مثال على ذلك حتى أضحى ألد أعداء الأمس هم أشد أنصار اليوم وأكثرهم حباً لرسول الله r ، ولو نظرنا إلى حلم النبي r لوجدناه فاق البشر بذلك ؛ حيث كان يقابل جهل الجاهلين بالحلم  ، بل لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً ، فهذا زيد بن سعنة الحبر اليهودي يقول : « لم يبق من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد   r   حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه يسبق حلمة جهله ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما . » وأراد أن يختبر هذا الخلق في رسول الله r ، فداينه إلى أجل ، وقبل الأجل بيومين ،  خرج رسول الله  r  في جنازة مع نفر من أصحابه ، فهجم عليه زيد بن سعنة ، ونظر إليه بوجه غاضب ، وأخذ بمجامع ثوبه ، ثم قال : «  ألا تقضيني يا محمد حقي ! فوالله ما علمتكم بني عبد المطلب إلا قوماً مطلاً،  ولقد كان لي بمخالطتكم علم . » 
بهذه الكلمات الجافية البذيئة والأسلوب الفظ فاجأ الحبر نبي الله بين أصحابه ، وكان بينهم عمر الذي استشاط غضباً وقال : «  أي عدو الله أتقول لرسول الله r   ما أسمع وتفعل به ما أرى ؟  فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر فوته ،  لضربت بسيفي هذا عنقك . »
بهذا الموقف استطاع الحبر اليهودي أن يستثير حفيظة أصحاب النبي r من حوله ، والذي كان يعنيه هو كيف سيتعامل محمد r مع هذا الموقف الاستفزازي ، فكان العجب من رسول الله r ؛ حيث نظر إلى عمر في سكون وتؤدة ثم قال : إنا كنا أحوج بهذا منك يا عمر ،  أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن التباعة .  اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعا من غيره مكان ما رعته ، فذهب عمر t فقضى اليهودي حقه وزاده عشرين صاعاً من تمر ، فقال الحبر اليهودي : ما هذه الزيادة ؟ فقال عمر t :  أمرني رسول الله  r   أن أزيدك مكان ما رعتك .
بهذا الموقف النبيل الصادر من رسول الله والذي قابل فيه الجهل بالحلم  تبين للحبر اليهودي أنه ليس أمام بشر عادي ، إذ لا يمكن أن يصدر مثل هذا الخلق إلا من نبي لذا قال لعمر t : «   أتعرفني يا عمر ؟ قال :  لا فمن أنت  ؟ قلت : أنا زيد بن سعنة  . قال :  الحبر  ؟ قلت : نعم الحبر . قال فما دعاك أن تقول لرسول الله  r   ما قلت وتفعل به ما فعلت ؟ فقلت :  يا عمر كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله r  حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أختبرهما منه يسبق حلمه جهله ، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما ، فقد أختبرتهما  فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد  صلى الله عليه وسلم  نبيا  ، وأشهدك أن شطر مالي صدقة على أمة محمد r   فقال عمر :  أو على بعضهم فإنك لا تسعهم كلهم قلت :  أو على بعضهم . » ([4])
وكثيراً ما كان النبي r يقابل السيئة بالحسنة والجهل بالحلم ، بل يقابل من تعمد أذاه بابتسامة وعطاء ،  عن أنس بن مالك t  قال  : «  كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ  r  وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ  r  قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ ثُمَّ قَالَ :  مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ .  فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ    . » ([5])
ومواقف النبي r الدالة على عظيم حلمه وكريم عفوه وإحسانه لا يمكن استقصاؤها ، وما ذكرت يبرز جانباً منها .
أما عن كمال عدل النبي r  فقد استقاه من التربية الإلهية والأخلاق القرآنية الداعية للعدل ، وكانت فطرته السليمة مهيأة للعدل من صغره ، فقد اشترك في حلف الفضول الداعي إلى دفع الظلم ، واستمر في حياته يتحرى العدل ويدعو له ، وهذا واضح في تعامله مع نسائه ، ولم يرد أن واحدة منهن قد شكت النبي r أو ادعت أنه قد جار في موقف .
بل من كمال عدله عتابه للأنصاري الذي أجاع جمله ، وأمر برد فرخي الطائر الذي جاء منزعجاً بين يدي النبي r وفي هذا تتجلى لنا سياسة النبي r  وتحريه دفع الظلم حتى لو كان على طائر أو حيوان .
ومن أجل مظاهر عدل النبي r  : «   أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا : وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ  r ؟  فَقَالُوا : وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ  r ؟  فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  r  أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ :  إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا . » ([6])
ففي هذا الموقف يجعل النبي r العدل مبدأ لا يخضع للمساومة ، ولا توهنه مكانة أو مقام أو حسب ، بل الناس سواسية في إقراره والاحتكام إليه .
أما عن تمثل النبي r للعدل فهذا واضح في كل حياته ؛ حيث لم يتميز عن صحابته وهم له تبع بملبس أو مأكل أو مجلس ، بل كان في كل ذلك أقلهم حالاً ، ولم تحل قيادته ورئاسته عن انخراطه فيمن حوله أو تميزه عنهم بشيء ، ومن عدله أنه قد استعد للاقتصاص منه بسبب وخزه لسواد بن غزية بسهم ، ومن عدله أنه  «  بَيْنَمَا  كان يَقْسِمُ قَسْمًا أَقْبَلَ رَجُلٌ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ ،  فَطَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ  r  بِعُرْجُونٍ كَانَ مَعَهُ فَجُرِحَ بِوَجْهِهِ .  فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ  r :  تَعَالَ فَاسْتَقِدْ فَقَالَ بَلْ عَفَوْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. » ([7])  ومن ذلك  أن  رَجُلاً مِنْ الْعَرَبِ قَالَ : «  زَحَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ  r  يَوْمَ حُنَيْنٍ وَفِي رِجْلِي نَعْلٌ كَثِيفَةٌ ، فَوَطِئْتُ بِهَا عَلَى رِجْلِ رَسُولِ اللَّهِ  r  فَنَفَحَنِي نَفْحَةً بِسَوْطٍ فِي يَدِهِ  وَقَالَ : بِسْمِ اللَّهِ أَوْجَعْتَنِي .  قَالَ : فَبِتُّ لِنَفْسِي لَائِمًا أَقُولُ أَوْجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  r  قَالَ :  فَبِتُّ بِلَيْلَةٍ كَمَا يَعْلَمُ اللَّهُ ،  فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا رَجُلٌ يَقُولُ :  أَيْنَ فُلَانٌ ؟  قَالَ :  قُلْتُ هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي كَانَ مِنِّي بِالْأَمْسِ  . قَالَ  : فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مُتَخَوِّفٌ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ  r  إِنَّكَ وَطِئْتَ بِنَعْلِكَ عَلَى رِجْلِي بِالْأَمْسِ فَأَوْجَعْتَنِي فَنَفَحْتُكَ نَفْحَةً بِالسَّوْطِ فَهَذِهِ ثَمَانُونَ نَعْجَةً فَخُذْهَا بِهَا » ([8])
فهذا الموقف وأمثاله كثير ليبرز لنا أن عدل النبي r قد بلغ ما يفوق تصورات كل من حوله ، بل بعد رحلة الرسالة خلال ثلاثة وعشرين سنة يخرج النبي r على الناس خطيباً في مرض وفاته فيقول : « أيها الناس ألا إنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم فمن كنت جلدت له ظهره فهذا ظهري   فليستقد  منه  ، إلا ومن كنت شئمت له عرضا فهذا عرضي  فليستقد  منه ، ألا لا يقولن رجل إني أخشى الشحناء من قبل رسول الله r ،  ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني ألا وإن أحبكم إلي من أخذ حقا إن كان له،  أو حللني فلقيت الله وأنا طيب النفس ، ألا وإني لا أرى ذلك مغنيا عني  ..  فقام إليه رجل فقال :  يا رسول الله إن لي عندك ثلاثة دراهم . قال : أما إنا لا نكذب قائلا ولا نستحلفه فبم صارت لك عندي . قال : تذكر يوم مر بك مسكين فأمرتني أن أدفعها إليه فقال :  ادفعها إليه يا فضل . » ([9])
أما عن كمال تواضع النبي r وخروجه عن مقتضى جاهه وعظمته وتنزله من مرتبة أمثاله ، فهذا واضح في كل سلوكه ؛ حيث لم يميز نفسه عن أصحابه بشيء إضافة إلى أنه كان يقوم بخدمة نفسه في بيته كأن يخصف نعله ، ويرقع ثوبه ، ويحلب شاته وكان لا يترفع عنها شأن الأكابر أو الملوك ،  ولم يأكل على خوان قط شأن الأكابر من أهل الدنيا ،وكان يعود المرضى ويتبع الجنائز ويركب الحمار ، ويجيب دعوة العبد ، وكانت الأمة أو العبد ليأتي فيأخذ بيد النبي r أين شاء ليقضي له حاجته ، وعند غزوه لبني قريظة كان يركب حماراً مخطوماً بحبل ليف ، مع قدرته على ما فوقه من المراكب ، ومن تواضعه أنه عندما حج كان على رحل رث ، وعليه قطيفة لا تساوي أربعة دراهم كما أخبر بذلك أنس t ، وكان إذا خرج مع صحابته يشاركهم في الخدمة ، وعندما قسموا على بعضهم عمل إصلاح شاة للطعام ، اختار النبي r جمع الحطب ، فقالوا : يا رسول الله ! نكفيك العمل ، قال : «  قد علمت أنكم تكفونني ، ولكني أكره أن أتميز عليكم ، وإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً عن أصحابه . »  ([10]) وعندما قدم عليه وفد النجاشي  ، قام بنفسه يخدمهم  فقال له أصحابه : نحن نكفيك  يا رسول الله. قال : «  إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين وإني أحب أن أكافئهم. »    ([11])   
ومن تواضع النبي r أنه كان يكره من صحابته أن يقوموا له عند قدومه عليهم ، وكان يكره أن يطروه ، أو يبالغوا في مدحه بالكذب ، ومن قوله في ذلك : «  لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ  . » ([12])  
ومن كمال تواضعه اختياره العبودية على الملك عندما خيره ربه ، عن أبي هريرة قال : «  جلس جبريل إلى النبي  r  فنظر إلى السماء  ، فإذا ملك ينزل فقال جبريل : هذا الملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة ،  فلما نزل قال  :  يا محمد أرسلني إليك ربك أفملكا نبيا أجعلك أو عبدا رسولا ؟  قال جبريل :  تواضع لربك يا محمد قال :  بل عبدا رسولا . فكان رسول الله  r   بعد ذلك لا يأكل متكئا يقول : آكل كما يأكل العبد أجلس كما يجلس العبد . »  ([13])  
أما عن حياء النبي r ، فهو كما وصفه أبو سعيد الخدري t   :   «  كَانَ النَّبِيُّ  r  أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا ، وَإِذَا كَرِهَ شَيْئًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ  »  ([14]) أما عن جرأته في الحق ، فقد كان أجرأ الناس ، بل لولا جرأته لما بلغ هذا الدين مبلغه ، ولعل أوضح مثال على ذلك البداية التي بدأ بها رسالته ؛ حيث صعد على جبل الصفا وأعلن النذير بين أهلها ، فهذا الموقف لا يتصور من بشر غير محمد r .
أما عن سماحة النبي r فقد ذكرت في ثنايا البحث الكثير من مظاهرها ، منها تجاوزه عن مخالفيه وعفوه عن مبغضيه ، وحرصه على هدايتهم ، ومنها أيضاً دعاؤه r لمخالفيه من غير المسلمين بالهداية فقد قدم الطفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه للنبي r فقالوا : «   يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا . فَقِيلَ :  هَلَكَتْ دَوْسٌ  - ظناً بأن النبي r رفع يديه ليدعو عليها - قَالَ : اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ  . » ([15])  والموقف نفسه يتكرر مع أبي هريرة حيث يقول : «  كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ ، فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللَّهِ  r  مَا أَكْرَهُ ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ  r  وَأَنَا أَبْكِي قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ فَتَأْبَى عَلَيَّ فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ . فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ نَبِيِّ اللَّهِ  r  فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ ، فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ فَقَالَتْ : مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ قَالَ فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا فَفَتَحَتْ الْبَابَ ثُمَّ قَالَتْ : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ  r  فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ  وقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْشِرْ قَدْ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَكَ وَهَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ . » ([16]
ومن ذلك أن الأنصار اشتكت شكيمة ثقيف ورماحها في الحرب فقالت للرسول r : «   يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْرَقَتْنَا نِبَالُ ثَقِيفٍ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ قَالَ :  اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا . » ([17]) وفي روايات أخرى أن الأنصـار أعادوا الطلب من النبي r مرات وفي كل مرة يدعو النبي r لثقيف بالهداية (_ )
ومن صور الدعاء السمح من النبي r أن اليهود كانوا يتعاطسون عنده رجاء أن يقول لهم يرحمكم الله ، فلم يحرمهم من الدعوة بالهداية والصلاح ، وكان يقول لهم : يهديكم ويصلح بالكم .
ومن مظاهر سماحته أنه كان يقبل هدايا مخالفيه ، فقد قبل هدية المقوقس ، وهدية المراة اليهوية التي أهدته شاة مسمومة في خيبر ، وكان يغشى مخالفيه في بيوتهم يدعوهم للإسلام ، من ذلك زيارته لكفار قريش في بيوتهم ، ومنه زيارة النبي r لليهود في منازلهم ودعوتهم لله ، بل كان يزور مرضاهم من ذلك «  أَنَّ غُلَامًا لِيَهُودَ كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ  r  فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ  r  يَعُودُهُ فَقَالَ أَسْلِمْ فَأَسْلَمَ . » ([18])
هذه السماحة التي تميز بها النبي r والتي وسعت الناس كلهم بغض النظر عن دينهم ونحلتهم وغمرتهم بالرحمة والإحسان كانت سبباً مفصلياً في انتشار الإسلام بسرعة أدهشت العالم القديم .
هذه نتف من مظاهر الكمال الخلقي عند محمد r ، إنما أذكرها تمثيلاً ، أما استيعابها فهذا تقصر دونه آلاف الصفحات التي يمكن أن تسطر بشهادات الواقع على كمال خلق النبي r ، ومن تتبع بعض تفاصيل هذا الباب يجد نفسه مدهوشاً أمام العظمة والسمو الخلقي الذي بلغه محمد r ، و لا يحق له أن يندهش ، لأنه ... محمد رسول الله الذي بلغ من الكمال البشري منتهاه .
وأرى نفسي اختم هذا الجانب بكلمات للمستشرق الإنجليزي لين بول : «  إن محمداً رسول الإسلام – r  كان يتصف بكثير من الصفات الحميدة كاللطف والشجاعة ، ومكارم الأخلاق ، حتى أن الإنسان لا يستطيع أن يحكم له دون أن يتأثر بما تتركه هذه الصفات من أثر في نفسه ، ودون أن يكون هذا الحكم صادراً عن ميل وعلى هدى ، وكيف لا ؟ وقد احتمل محمد عداء أهله وعشيرته أعواماً ، فلم يهن له عزم ، ولا ضعفت له قوة .. وقد بلغ محمد –r  - من نبله أنه لم يكن طول حياته البادئ بسحب يده من يد مصافحه ، حتى لو كان المصافح طفلاً ، وأنه لم يمر بجماعة يوماً رجالاً كانوا أو أطفالاً دون أن يقرئ عليهم السلام وفي شفتيه ابتسامة حلوة ، وفي فمه نغمة جميلة كانت تكفي لسحر سامعها ، فيجذب القلوب إليه جذباً . » ([19])


([1]) القلم : الآية 4
([2]) أخرجه الحاكم برقم 3842 ، وقال صحيح على شرط الشيخين [ المستدرك ( 2/541) ]
([3]) آل عمران : الآية 159
([4]) أخرجه ابن حبان برقم 288 [ صحيح ابن حبان ( 1/523) ] والحاكم برقم 6547 ، وقال : صحيح الإسناد [ المستدرك ( 3/700) ]
([5]) أخرجه البخاري برقم 2980[ البخاري ( 3/1184) ]
([6]) أخرجه البخاري برقم 3288 [ البخاري ( 3/1282) ]
([7]) أخرجه أبو داود برقم 4536 [ السنن ( 4/182) ] ؛ والنسائي برقم 4773 [ السنن ( 8/32) ]
([8]) أخرجه الدارمي برقم 72 [ سنن الدارمي ( 1/48) ]
([9]) أخرجه الطبراني برقم 718 [ المعجم الكبير (18/280) ] ؛ قال الهيثمي رواه الطبراني في الكبير والأوسط وأبو يعلى ، وفي إسناد أبي يعلى عطاء مسلم ، وثقه ابن حبان وضعفه غيره ، وبقية رجال أبي يعلى ثقات [ مجمع الزوائد ( 9/26) ]
([10]) انظر الحسني : محمد الإنسان الكامل ( 143)
([11]) انظر أبو الحسين : معجم الشيوخ ( 1/97)  
([12]) أخرجه البخاري برقم 3261 [ البخاري ( 3/1271) ]
([13]) أخرجه أحمد برقم 7160 [ المسند ( 2/231) ] ، قال الهيثمي : رواه أحمد والبزار وأبي يعلى ورجال الأوليين رجال الصحيح [ مجمع الزوائد ( 9/18 وما بعدها ) ]
([14]) أخرجه البخاري برقم 5751 [ البخاري ( 5/2263) ]
([15]) أخرجه البخاري برقم 2779 [ البخاري ( 3/1073) ]
([16]) أخرجه مسلم برقم 2491 [ صحيح مسلم ( 4/1938) ]
([17]) أخرجه الترمذي برقم 3942 ، وقال : حسن صحيح [ السنن ( 5/729) ]
(_ )  المعلوم أن ماضي ثقيف مع النبي r كان قاتماً ، فقد نكلت به وآذته أشد إيذاء عندما ذهب إليها ليدعوها ، واستمر عداؤها حتى اللحظة الأخيرة ، وبالرغم من ذلك تجاوز النبي r كل ظلمهم ، وتعاطى معهم بسماحة منقطعة النظير حتى في لحظة كان يرى فيها تساقط أصحابه شهداء تحت رماحهم .   
([18]) أخرجه البخاري برقم 5333 [ البخاري ( 5/2142) ]
([19])عبد الوهاب : محمد رسول الإسلام ( 34 وما بعدها )  

ليست هناك تعليقات: