كمال
خلقه .
لعل أبلغ وصف لخلق النبي r هو ما وصفه
به ربه بقوله : } وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ
عَظِيمٍ { ([1]) وإنما كان خلق النبي r عظيماً
لاجتماع مكارم الأخلاق كلها فيه ، و قد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي r فقالت : « كان خلقه القرآن » ([2])
وكما أن معاني القرآن لا تتناهى كذلك أوصاف النبي r الدالة
على خلقه العظيم لا تتناهى ؛ إذ في كل حال من أحواله r يتجدد له
من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ، وما يفيضه الله عليه من معارفه وعلومه ما لا
يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى ، والتعرض لحصر جزئيات أخلاقه الجميلة تعرض لما ليس
بمقدور الإنسان ، وقد كان r مجبولاً على الأخلاق
الكريمة في أصل خلقته النقية الزكية ، ولم يحصل ذلك برياضة منه ، بل بجود إلهي ،
حتى بلغ في خلقه الغاية العليا والمقام الأسنى .
ولعل أعظم دليل على كمال خلقه وسموه ما يرشدنا
إليه حسن تدبيره للعرب الذين كانوا كالوحوش الشاردة في طباعها النافرة المتباعدة ،
وكيف ساسهم واحتمل جفاهم وصبر على أذاهم
إلى أن انقادوا إليه والتفوا حوله وقاتلوا دونه أهليهم واختاروه على أنفسهم ، وهجروا
في رضاه أوطانهم ، كل ذلك حصله النبي r بكريم
خلقه وبعظيم خصاله ، وبمديد صفحه ولينه ، يقول الله سبحانه وتعالى : } فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ
لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ . { ([3])
فهذه الرحمة التي كانت من أجل خصائصه الخلقية
هي التي ألفت بين المتنافر ، وردت الشارد وهذبت السلوك حتى أضحى العرب منارة للعلم
والحضارة وأئمة يقتدى بهم في الأخلاق والفضيلة بعدما كانوا كلاب الصحراء وأكلي
الجعل .
هذه نظرة مجملة لخلق النبي r ، ولو
استقرينا الفضائل بطريقة تفصيلية لوجدنا النبي r قد نال من
كل فضيلة أعلاها حتى أصبح فيها علماً يقتدى به وغاية يرتجى الاقتراب منها لا
بلوغها ، فبلوغ غاية الفضائل وأعلاها اختص به النبي محمد r دون سائر
البشر ، ففي الصبر وجدنا النبي r قد بلغ منتهاه حيث
صبر على إيذاء قومه ، وكان صبره صبر الكرام ، ولم تورثه عظمة الإيذاء وشدته
الضغينة في قلبه ، بل حاز الكمال في العفو والتسامح ، ونراه يصفح ويعفو بل يكرم من
آذاه ويتحبب له ، وكان ينسل من قلب عدوه أي عداوة له بكريم صفحه وبعظيم كرمه ،
وفتح مكة وغزوة حنين أكبر مثال على ذلك حتى أضحى ألد أعداء الأمس هم أشد أنصار
اليوم وأكثرهم حباً لرسول الله r ، ولو نظرنا إلى حلم
النبي r لوجدناه
فاق البشر بذلك ؛ حيث كان يقابل جهل الجاهلين بالحلم ، بل لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً ، فهذا
زيد بن سعنة الحبر اليهودي يقول : « لم يبق من علامات النبوة شيء إلا وقد
عرفتها في وجه محمد r حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه يسبق
حلمة جهله ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما . » وأراد أن يختبر هذا
الخلق في رسول الله r ، فداينه
إلى أجل ، وقبل الأجل بيومين ، خرج رسول
الله r في جنازة مع نفر من أصحابه ، فهجم عليه زيد بن
سعنة ، ونظر إليه بوجه غاضب ، وأخذ بمجامع ثوبه ، ثم قال : « ألا تقضيني يا محمد حقي ! فوالله ما علمتكم
بني عبد المطلب إلا قوماً مطلاً، ولقد كان
لي بمخالطتكم علم . »
بهذه الكلمات الجافية البذيئة والأسلوب الفظ
فاجأ الحبر نبي الله بين أصحابه ، وكان بينهم عمر الذي استشاط غضباً وقال : « أي عدو الله أتقول لرسول الله r ما أسمع وتفعل به ما أرى ؟ فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر فوته ، لضربت بسيفي هذا عنقك . »
بهذا الموقف استطاع الحبر اليهودي أن يستثير
حفيظة أصحاب النبي r من حوله ،
والذي كان يعنيه هو كيف سيتعامل محمد r مع هذا
الموقف الاستفزازي ، فكان العجب من رسول الله r ؛ حيث نظر
إلى عمر في سكون وتؤدة ثم قال : إنا كنا أحوج بهذا منك يا عمر ، أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن التباعة . اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعا من
غيره مكان ما رعته ، فذهب عمر t فقضى اليهودي حقه
وزاده عشرين صاعاً من تمر ، فقال الحبر اليهودي : ما هذه الزيادة ؟ فقال عمر t : أمرني رسول الله r أن أزيدك مكان ما رعتك .
بهذا الموقف النبيل الصادر من رسول الله والذي
قابل فيه الجهل بالحلم تبين للحبر اليهودي
أنه ليس أمام بشر عادي ، إذ لا يمكن أن يصدر مثل هذا الخلق إلا من نبي لذا قال
لعمر t : « أتعرفني
يا عمر ؟ قال : لا فمن أنت ؟ قلت : أنا زيد بن سعنة . قال : الحبر ؟
قلت : نعم الحبر . قال فما دعاك أن تقول لرسول الله r ما قلت وتفعل به ما فعلت ؟ فقلت : يا عمر كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول
الله r حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أختبرهما منه يسبق
حلمه جهله ، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما ، فقد أختبرتهما فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله ربا وبالإسلام
دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ،
وأشهدك أن شطر مالي صدقة على أمة محمد r فقال عمر : أو على بعضهم فإنك لا تسعهم كلهم قلت : أو على بعضهم . » ([4])
وكثيراً ما كان النبي r يقابل
السيئة بالحسنة والجهل بالحلم ، بل يقابل من تعمد أذاه بابتسامة وعطاء ، عن أنس بن مالك t قال : «
كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ r وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ
الْحَاشِيَةِ ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً حَتَّى
نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ r قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ
شِدَّةِ جَذْبَتِهِ ثُمَّ قَالَ : مُرْ
لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ . فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ
لَهُ بِعَطَاءٍ . » ([5])
ومواقف النبي r الدالة
على عظيم حلمه وكريم عفوه وإحسانه لا يمكن استقصاؤها ، وما ذكرت يبرز جانباً منها
.
أما عن كمال عدل النبي r فقد استقاه من التربية الإلهية والأخلاق
القرآنية الداعية للعدل ، وكانت فطرته السليمة مهيأة للعدل من صغره ، فقد اشترك في
حلف الفضول الداعي إلى دفع الظلم ، واستمر في حياته يتحرى العدل ويدعو له ، وهذا
واضح في تعامله مع نسائه ، ولم يرد أن واحدة منهن قد شكت النبي r أو ادعت
أنه قد جار في موقف .
بل من كمال عدله عتابه للأنصاري الذي أجاع جمله
، وأمر برد فرخي الطائر الذي جاء منزعجاً بين يدي النبي r وفي هذا
تتجلى لنا سياسة النبي r وتحريه دفع الظلم حتى لو كان على طائر أو حيوان
.
ومن أجل مظاهر عدل النبي r : « أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ
الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا : وَمَنْ يُكَلِّمُ
فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ r ؟ فَقَالُوا : وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا
أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ r ؟ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟ ثُمَّ
قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ : إِنَّمَا
أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ
تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ
اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا . » ([6])
ففي هذا الموقف يجعل النبي r العدل
مبدأ لا يخضع للمساومة ، ولا توهنه مكانة أو مقام أو حسب ، بل الناس سواسية في
إقراره والاحتكام إليه .
أما عن تمثل النبي r للعدل
فهذا واضح في كل حياته ؛ حيث لم يتميز عن صحابته وهم له تبع بملبس أو مأكل أو مجلس
، بل كان في كل ذلك أقلهم حالاً ، ولم تحل قيادته ورئاسته عن انخراطه فيمن حوله أو
تميزه عنهم بشيء ، ومن عدله أنه قد استعد للاقتصاص منه بسبب وخزه لسواد بن غزية
بسهم ، ومن عدله أنه « بَيْنَمَا كان يَقْسِمُ قَسْمًا أَقْبَلَ رَجُلٌ فَأَكَبَّ
عَلَيْهِ ، فَطَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ r بِعُرْجُونٍ كَانَ مَعَهُ فَجُرِحَ بِوَجْهِهِ .
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ r : تَعَالَ فَاسْتَقِدْ فَقَالَ بَلْ عَفَوْتُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ. » ([7]) ومن ذلك
أن رَجُلاً مِنْ الْعَرَبِ قَالَ :
« زَحَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَوْمَ حُنَيْنٍ وَفِي رِجْلِي نَعْلٌ كَثِيفَةٌ
، فَوَطِئْتُ بِهَا عَلَى رِجْلِ رَسُولِ اللَّهِ r فَنَفَحَنِي نَفْحَةً بِسَوْطٍ فِي يَدِهِ وَقَالَ : بِسْمِ اللَّهِ أَوْجَعْتَنِي . قَالَ : فَبِتُّ لِنَفْسِي لَائِمًا أَقُولُ
أَوْجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : فَبِتُّ بِلَيْلَةٍ كَمَا يَعْلَمُ اللَّهُ ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا رَجُلٌ يَقُولُ : أَيْنَ فُلَانٌ ؟ قَالَ : قُلْتُ هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي كَانَ مِنِّي
بِالْأَمْسِ . قَالَ : فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مُتَخَوِّفٌ فَقَالَ
لِي رَسُولُ اللَّهِ r إِنَّكَ وَطِئْتَ بِنَعْلِكَ عَلَى رِجْلِي
بِالْأَمْسِ فَأَوْجَعْتَنِي فَنَفَحْتُكَ نَفْحَةً بِالسَّوْطِ فَهَذِهِ
ثَمَانُونَ نَعْجَةً فَخُذْهَا بِهَا » ([8])
فهذا الموقف وأمثاله كثير ليبرز لنا أن عدل
النبي r قد بلغ ما
يفوق تصورات كل من حوله ، بل بعد رحلة الرسالة خلال ثلاثة وعشرين سنة يخرج النبي r على الناس
خطيباً في مرض وفاته فيقول : « أيها الناس ألا إنه قد دنا مني حقوق من بين
أظهركم فمن كنت جلدت له ظهره فهذا ظهري
فليستقد منه ، إلا ومن كنت شئمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد
منه ، ألا لا يقولن رجل إني أخشى الشحناء من قبل رسول الله r ، ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني
ألا وإن أحبكم إلي من أخذ حقا إن كان له، أو حللني فلقيت الله وأنا طيب النفس ، ألا وإني
لا أرى ذلك مغنيا عني .. فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله إن لي عندك ثلاثة دراهم . قال : أما
إنا لا نكذب قائلا ولا نستحلفه فبم صارت لك عندي . قال : تذكر يوم مر بك مسكين
فأمرتني أن أدفعها إليه فقال : ادفعها
إليه يا فضل . » ([9])
أما عن كمال تواضع النبي r وخروجه عن
مقتضى جاهه وعظمته وتنزله من مرتبة أمثاله ، فهذا واضح في كل سلوكه ؛ حيث لم يميز
نفسه عن أصحابه بشيء إضافة إلى أنه كان يقوم بخدمة نفسه في بيته كأن يخصف نعله ،
ويرقع ثوبه ، ويحلب شاته وكان لا يترفع عنها شأن الأكابر أو الملوك ، ولم يأكل على خوان قط شأن الأكابر من أهل الدنيا
،وكان يعود المرضى ويتبع الجنائز ويركب الحمار ، ويجيب دعوة العبد ، وكانت الأمة
أو العبد ليأتي فيأخذ بيد النبي r أين شاء ليقضي له
حاجته ، وعند غزوه لبني قريظة كان يركب حماراً مخطوماً بحبل ليف ، مع قدرته على ما
فوقه من المراكب ، ومن تواضعه أنه عندما حج كان على رحل رث ، وعليه قطيفة لا تساوي
أربعة دراهم كما أخبر بذلك أنس t ، وكان إذا خرج مع
صحابته يشاركهم في الخدمة ، وعندما قسموا على بعضهم عمل إصلاح شاة للطعام ، اختار
النبي r جمع الحطب
، فقالوا : يا رسول الله ! نكفيك العمل ، قال : « قد علمت أنكم تكفونني ، ولكني أكره أن أتميز
عليكم ، وإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً عن أصحابه . » ([10]) وعندما قدم عليه وفد
النجاشي ، قام بنفسه يخدمهم فقال له أصحابه : نحن نكفيك يا رسول الله. قال : « إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين وإني أحب أن
أكافئهم. » ([11])
ومن تواضع النبي r أنه كان
يكره من صحابته أن يقوموا له عند قدومه عليهم ، وكان يكره أن يطروه ، أو يبالغوا
في مدحه بالكذب ، ومن قوله في ذلك : « لَا
تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ
فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ .
» ([12])
ومن كمال تواضعه اختياره العبودية على الملك
عندما خيره ربه ، عن أبي هريرة قال : « جلس
جبريل إلى النبي r فنظر إلى السماء ، فإذا ملك ينزل فقال جبريل : هذا الملك ما نزل
منذ خلق قبل الساعة ، فلما نزل قال : يا
محمد أرسلني إليك ربك أفملكا نبيا أجعلك أو عبدا رسولا ؟ قال جبريل : تواضع لربك يا محمد قال : بل عبدا رسولا . فكان رسول الله r بعد ذلك لا يأكل متكئا يقول : آكل كما يأكل
العبد أجلس كما يجلس العبد . » ([13])
أما عن حياء النبي r ، فهو كما
وصفه أبو سعيد الخدري t : « كَانَ النَّبِيُّ r أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي
خِدْرِهَا ، وَإِذَا كَرِهَ شَيْئًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ » ([14]) أما عن جرأته في الحق
، فقد كان أجرأ الناس ، بل لولا جرأته لما بلغ هذا الدين مبلغه ، ولعل أوضح مثال
على ذلك البداية التي بدأ بها رسالته ؛ حيث صعد على جبل الصفا وأعلن النذير بين
أهلها ، فهذا الموقف لا يتصور من بشر غير محمد r .
أما عن سماحة النبي r فقد ذكرت
في ثنايا البحث الكثير من مظاهرها ، منها تجاوزه عن مخالفيه وعفوه عن مبغضيه ،
وحرصه على هدايتهم ، ومنها أيضاً دعاؤه r لمخالفيه
من غير المسلمين بالهداية فقد قدم الطفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه للنبي r فقالوا :
« يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ
وَأَبَتْ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا . فَقِيلَ : هَلَكَتْ دَوْسٌ - ظناً بأن النبي r رفع يديه
ليدعو عليها - قَالَ : اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ . » ([15]) والموقف نفسه يتكرر مع أبي هريرة حيث يقول : « كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ
وَهِيَ مُشْرِكَةٌ ، فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللَّهِ r مَا أَكْرَهُ ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ r وَأَنَا أَبْكِي قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ فَتَأْبَى عَلَيَّ فَدَعَوْتُهَا
الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ
أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r :
اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ . فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ
نَبِيِّ اللَّهِ r فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ ، فَإِذَا
هُوَ مُجَافٌ فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ فَقَالَتْ : مَكَانَكَ يَا أَبَا
هُرَيْرَةَ وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ قَالَ فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ
دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا فَفَتَحَتْ الْبَابَ ثُمَّ قَالَتْ : يَا
أَبَا هُرَيْرَةَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ وقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْشِرْ قَدْ
اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَكَ وَهَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ فَحَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ . » ([16])
ومن ذلك أن الأنصار اشتكت شكيمة ثقيف ورماحها
في الحرب فقالت للرسول r : « يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَخْرَقَتْنَا نِبَالُ ثَقِيفٍ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ قَالَ
: اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا . » ([17])
وفي روايات أخرى أن الأنصـار أعادوا الطلب من النبي r مرات وفي
كل مرة يدعو النبي r لثقيف
بالهداية (_ )
ومن صور الدعاء السمح من النبي r أن اليهود
كانوا يتعاطسون عنده رجاء أن يقول لهم يرحمكم الله ، فلم يحرمهم من الدعوة
بالهداية والصلاح ، وكان يقول لهم : يهديكم ويصلح بالكم .
ومن مظاهر سماحته أنه كان يقبل هدايا مخالفيه ،
فقد قبل هدية المقوقس ، وهدية المراة اليهوية التي أهدته شاة مسمومة في خيبر ،
وكان يغشى مخالفيه في بيوتهم يدعوهم للإسلام ، من ذلك زيارته لكفار قريش في بيوتهم
، ومنه زيارة النبي r لليهود في
منازلهم ودعوتهم لله ، بل كان يزور مرضاهم من ذلك « أَنَّ غُلَامًا لِيَهُودَ كَانَ يَخْدُمُ
النَّبِيَّ r فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ r يَعُودُهُ فَقَالَ أَسْلِمْ فَأَسْلَمَ . » ([18])
هذه السماحة التي تميز بها النبي r والتي
وسعت الناس كلهم بغض النظر عن دينهم ونحلتهم وغمرتهم بالرحمة والإحسان كانت سبباً
مفصلياً في انتشار الإسلام بسرعة أدهشت العالم القديم .
هذه نتف من مظاهر الكمال الخلقي عند محمد r ، إنما
أذكرها تمثيلاً ، أما استيعابها فهذا تقصر دونه آلاف الصفحات التي يمكن أن تسطر
بشهادات الواقع على كمال خلق النبي r ، ومن
تتبع بعض تفاصيل هذا الباب يجد نفسه مدهوشاً أمام العظمة والسمو الخلقي الذي بلغه
محمد r ، و لا
يحق له أن يندهش ، لأنه ... محمد رسول الله الذي بلغ من الكمال البشري منتهاه .
وأرى نفسي اختم هذا الجانب بكلمات للمستشرق
الإنجليزي لين بول : « إن محمداً رسول
الإسلام – r كان يتصف
بكثير من الصفات الحميدة كاللطف والشجاعة ، ومكارم الأخلاق ، حتى أن الإنسان لا
يستطيع أن يحكم له دون أن يتأثر بما تتركه هذه الصفات من أثر في نفسه ، ودون أن
يكون هذا الحكم صادراً عن ميل وعلى هدى ، وكيف لا ؟ وقد احتمل محمد عداء أهله
وعشيرته أعواماً ، فلم يهن له عزم ، ولا ضعفت له قوة .. وقد بلغ محمد –r - من
نبله أنه لم يكن طول حياته البادئ بسحب يده من يد مصافحه ، حتى لو كان المصافح
طفلاً ، وأنه لم يمر بجماعة يوماً رجالاً كانوا أو أطفالاً دون أن يقرئ عليهم
السلام وفي شفتيه ابتسامة حلوة ، وفي فمه نغمة جميلة كانت تكفي لسحر سامعها ،
فيجذب القلوب إليه جذباً . »
([19])
(_ ) المعلوم أن ماضي ثقيف
مع النبي r كان
قاتماً ، فقد نكلت به وآذته أشد إيذاء عندما ذهب إليها ليدعوها ، واستمر عداؤها
حتى اللحظة الأخيرة ، وبالرغم من ذلك تجاوز النبي r كل ظلمهم
، وتعاطى معهم بسماحة منقطعة النظير حتى في لحظة كان يرى فيها تساقط أصحابه شهداء
تحت رماحهم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق