الاثنين، 11 يونيو 2012

دور القيم والأخلاق في تعزيز الأمن في المجتمعات


القيم والأخلاق وأثرها على ثقافة السلام

لا يخفى الدور المباشر للقيم في تعزيز ثقافة السلام بين المجتمعات ، و في تحقيق الأمن والسلم الأهلي داخلها ؛ فهناك تلازم بين القيم والسلم باعتبار أن أحدهما محصلة للآخر ، فكلما ارتقت منظومة القيم في المجتمع نجد انحساراً لثقافة العنف والعدائية ،  وفي حال  الانحدار القيمي للمجتمع نجد ارتفاعاً ملحوظاً لمستوى العنف داخله ، ويمكن بيان الأثر الجوهري للقيم في تعزيز السلام وتحقيق الأمن من خلال النقاط التالية  . 
أولاً : القيم وتعزيز حاجات الإنسان .
تعتبر الصحة والأمن والاستقرار من أهم الحاجات الإنسانية ، والقيم هي من أهم معززات هذه الحاجات في المجتمع ، فعلى مستوى الأمن نجد أن غياب القيم من المجتمع وانتشار الخديعة والريبة والغش والكذب  والظلم بين أفراده ، و ما يترتب على ذلك من اضطهاد وتغييب للشخصية الإنسانية ،  وشيوع الانحرافات الأخلاقية هي من أهم أسباب غياب الأمن والاستقرار في المجتمعات ، وتجربة الواقع سواء عندنا أو عند الغرب أكبر شاهد على ذلك .
كذلك نلحظ أن هناك علاقة مباشرة بين القيم والصحة النفسية على وجه الخصوص ، والصحة العامة على وجه العموم ، بل حقيقة الأمراض النفسية أو الاعتلالات النفسية أن لها بدايات خلقية ، فسوء الخلق ، أو غياب المعايير الخلقية داخل المجتمع يترتب  عليه الانعزال والاغتراب النفسي ثم سيطرة الأفكار السوداوية وما يرادف ذلك من اكتئاب ثم دخول في سلسلة الأمراض النفسية المتداخلة في درجتها الثانية مع الانحراف السلوكي ، والذي يتسم بالحدة والعنف في أغلب أحواله ، وما يترتب عليه من عنف مضاد . ([1])
وبالمقابل خلق الرحمة والسماحة والاعتدال وثقافة المحبة معززة للتقبل الاجتماعي ومحققة لتقدير الذات وما يرادف ذلك من صحة نفسية على مستوى الفرد والمجتمع ، وهذا ينعكس بدوره على تعزيز ثقافة السلام وحل مشكلات المجتمع بالوسائل الحضارية السلمية .
ثانياً : القيم هي صمام الأمان للمجتمعات .
القيم هي أساس بناء المجتمع وعنوان رقيه وهي الدعامة الأولى لحفظ الأمم والدول والمجتمعات وبفضلها ينهض العمل الصالح النافع من أجل خير الأمة والمجتمع ، وباستقراء التاريخ نلحظ أنه ما من أمة حادت عن مبادئ الأخلاق الفاضلة وانحرفت نحو الترف والإسراف والفساد والانحلال الخلقي أو إلى القهر والتجبر والظلم إلا دمرها الله سبحانه وتعالى بسبب ترفها وظلمها ؛  لذا خطر الانحطاط على مستوى القيم والأخلاق هو أخطر بكثير من الانحطاط المادي ، وذلك لما يترتب عليه من تآكل داخلي ونزوع عدواني يزعزع أركانه ويقوض معالم التنمية داخله  . ([2])
ثالثاً : القيم والأخلاق تنمية للذات الإنسانية .
الفرد هو اللبنة الأولى في المجتمع ؛ لذا تنميته روحياً وسلوكياً يعود مردوده المباشر على المجتمع الذي ينتمي إليه ، وأهم ما ينمي الذات الإنسانية هو ترقيته في باب القيم والأخلاق ؛ فالإنسان إذا تمسك بمكارم الأخلاق تسمو نفسه وتزكو روحه وترتقي أحاسيسه ومشاعره ويتخلص تدريجياً من عبودية الذات والأنانية والسلبية ليجد ذاته مع الآخرين ولا يكتمل وجوده إلا بوجودهم ولا تتحقق سعادته إلا من خلال سعادتهم ،ويبادله الآخرون نفس المشاعر فيجد لحياته معنى ولذاته قيمة ومكانة .
والتقبل الاجتماعي للفرد ليس منحة يمنحها الفرد لذاته ، بل هي محصلة لجهد تهذيبي وسلوكي وأخلاقي يرتقي فيه الإنسان نحو المعاني الإيجابية ، فيأتيه القبول أو التقبل الاجتماعي تلقائياً نتيجة لهذا الجهد ، وهذا التقبل قد لا يحققه الإنسان بماله أو سلطانه أو جاهه ، ولعل هذا المعنى هو الذي أشار إليه النبي r بقوله :  «  إِنَّكُمْ لَا تَسَعُونَ اَلنَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ, وَلَكِنْ لِيَسَعْهُمْ بَسْطُ اَلْوَجْهِ, وَحُسْنُ اَلْخُلُقِ  » ([3])  
وبالمقابل غياب المعيار الخلقي في الذات الإنسانية يميل بها إلى الانعزال نحو الذات والتقوقع حول الشهوات والنزوات والدوافع ، وينحو نحو الأنانية فلا يهتم بالآخرين ولا ينفعل لآلامهم وآمالهم ولا يسهم في حل مشاكلهم ، ويترتب على ذلك انعزاله عن مجتمعه في الجوهر وإن كان ينتمي إليهم في الشكل ([4])   وهذا ينجم عنه إهمال جزء هام من شخصية الإنسان وحرمانه من هويته وتغييب ذاته ، يقول أوجست كانت : « إن النقص الحاصل من إهمال التهذيب أشد وطأة وأضر بالإنسان من نقص التعليم . » ([5])  ، وإذا فقد الإنسان الجزء الحيوي من ذاته وعنوان هويته الإنسانية ، فلا محالة لا يبقى أمامه إلا الجزء البهيمي الذي تهيمن عليه الغرائز ، فيسعى إلى إرضاء نزواته وشهواته  دون النظر إلى الوسيلة والأسلوب ، وهذا من أهم معززات العنف في المجتمع . 
كذلك تسهم القيم في رسم المنحى المثالي للحياة الإنسانية لكي ترتقي لدرجة التكريم التي أنيطت بها ، فرقي الحياة رهن بأخلاقيات الإنسان وقيمه ، وانحدارها رهن بالانحدار الأخلاقي ، وباستقراء التاريخ نعلم ما أدت إليه الأحقاد والبغضاء وحب السيطرة والتسلط ونعرات العنصرية والتجبر والتكبر من حروب ما جرت إليه من ويلات على الحياة الإنسانية أبيدت فيها شعوب آمنة واستعبدت من خلالها شعوب حرة وإهدرت خلالها كل معاني الحياة الإنسانية ، وبالمقابل كان الارتقاء في سلم القيم والأخلاق عبر التاريخ هو ارتقاء في معنى الحياة الإنسانية المكرمة .
كذلك لا يخفى علينا من واقع التجربة ما جر له الانحراف الخلقي في المجتمعات من انزلاقات مفرخة للجريمة فيه بما يسمى بالجريمة المنظمة والعصابات التي استشرى خطرها وضررها تحت حماية مؤسسـات ومنظـمات ، وما نشهده من إشعال للفتن في البلدان الآمنة ومصادرة حقها في حياة آمنة . ([6])
فكل هذه النتائج إنما هي من إفرازات غياب الهوية الإنسانية .
رابعاً : القيم والأخلاق تنمية للمجتمع .
بالنظر إلى جوانب رقي المجتمعات يمكن حصرها في جانبين جوهريين : الرقي   المعنوي و الرقي المادي .وتحققها في مجتمع واحد هو مظهر كمال لهذا المجتمع ، أما إذا كان لا بد من الاختيار بين الجانبين فما من عاقل يختار النموذج الثاني على الأول ، إذ ما فائدة المنجزات التكنولوجية للفرد في مجتمع لا يأمن فيه على ذاته أو حقوقه وحرماته ، أو يفقد فيه كرامته أو دمه وعرضه ، والإنسان بطبيعته لا يستبدل كرامته وحريته بكل أموال الأرض ، وهذا المعنى يشير إليه دوركايم بقوله : « الأمور الأخلاقية لها قيمة لا تقاس بسائر القيم الإنسانية ، وآية ذلك أننا نضحي بأنفسنا من أجلها مما يدل على أنها لا نظير لها ، والعواطف الجماعية هي التي يتوافر فيها هذا الشرط ولأنها الصدى في نفوسنا لصوت الجماعة العظيم . » ([7]) ، ويقول الدكتور ستيفن كوفي : « إن القيمة التنافسية لأي أمة لا  تكمن في إمكاناتها المادية ، يل في قيمها وأخلاقها . » ويقول المفكر الفرنسي جاك بيرك : « أعتقد أن من المستحيل أن يصل شعب من الشعوب إلى مستقبل سليم دون احترام القيم وإحيائها . »  ([8]) ، ويقول مارتن لوثر : « ليست سعادة البلاد بوفرة إيرادها ، ولا بقوة حصونها ، ولا بجمال بنائها ، وإنما سعادتها بعدد المهذبين من أبنائها ، وبعدد الرجال ذوي التربية والأخلاق فيها . » ([9])
بل أظهرت الدراسات أن الإنسان يصبح أقل شعوراً بالاكتفاء عندما تتوفر له الحياة المادية أكثر من ذي قبل ، وأنه مع ارتفاع مستويات المعيشة والتعليم تزداد حالات الأمراض العقلية والعصبية وحالات الانتحار ، مما يدل على أن للإنسان حاجات عليا روحية وعاطفية تميزه عن الحيوان ، ولا يسد عنها إشباع الحاجات المادية . ([10])
و أشارت دراسات علم النفس إلى أنه « لا يستطيع أي مجتمع البقاء والاستمرار ، دون أن تحكمه مجموعة من النظم والقوانين ، التي تنظم علاقة أفراده ، وتكون تلك القوانين والنظم بمثابة المعايير المعتمدة في توجيه سلوكهم وتقويم انحرافاتهم . » ([11])
يتبين مما سبق أن الرقي الحضاري المعنوي للمجتمع هو أهم جوانب رقي المجتمعات ، وهذا الجانب لا يتأتى الوصول إليه إلى المستوى المنشود إلا إذا ترسخت القيم والأخلاق في عموم المجتمع ، بحيث يطمئن كل إنسان إلى أخلاقيات التعامل داخل المجتمع فلا يخشى الغدر أو الغش والتزوير ، او انتقاص حقوقه ، فتعم الجميع ثقة متبادلة تصل إلى درجة تصبح من مسلمات المجتمع ، كذلك التربية الخلقية لها أثر واضح في تغيب أو تذويب الدوافع الشخصية كتغليب المنفعة الذاتية والمصلحة الشخصية لتحل محلها دوافع الحق والواجب والعدل والخير .  ([12])
 ويمكن تلخيص أثر القيم والأخلاق على تنمية المجتمع وأثر ذلك على ثقافة السلام  في الأمور التالية :
1-        تأسيس العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع على أسس أخلاقية يسهم في توفير مقومات القوة والرقي للمجتمع من خلال مناخ إيجابي في المجتمع مبني على أساس التآلف والمحبة والتعاون والتضامن ، والاستعداد الجمعي لمواجهة التحديات المتنوعة التي تعصف بالمجتمع ، وشيوع الأساليب السلمية في حل مشكلاته .
2-        تجسيد القيم والأخلاق في المجتمع تسهم في تعزيز روح  التنافس الخيِّر بين أفراده ، وتخفف من عبء وتكاليف غياب الوازع الأخلاقي على مستوى الأمن الاجتماعي ، أو على المستوى التربوي ، أو الإصلاحي والعقابي ، وتساهم في تعزيز القوى المعنوية الدافعة للمجتمع نحو الارتقاء والتطور ،  كذلك توفر القيم للمجتمع حصانة داخلية من أي اختراق خارجي يهدف إلى تفتيته أو استنزاف ثرواته ،أو تمزيق عناصره، أو بذر الفتنة بين شرائحه .
 د. محمد المبيض                                  كتابه ثقافة السلام عند رسول الإسلام 



([1]) انظر توفيق : التأصيل الإسلامي للدراسات النفسية ( 332 وما بعدها )
([2])  الشيباني : فلسفة التربية الإسلامية ( 226 )
([3])  رواه أبو يعلى والبزار من طرق أحدها حسن جيد؛و حسنه الألباني [ صحيح الترغيب والترهيب برقم 2261 ] 
([4]) انظر الأسمر : فلسفة التربية الإسلامية (408)   
([5])  قرعوش وآخرون : الأخلاق في الإسلام ( 25)
([6])  انظر الأسمر : فلسفة التربية الإسلامية ( 408 ) 
([7])  انظر : ناصر : التربية الأخلاقية 146
([8])   انظر  جواد : دوافع الالتزام الخلقي ( 19)
([9])  انظر قرعوش وآخرون : الأخلاق في الإسلام ( 25)
([10])  الكيلاني : فلسفة التربية الإسلامية ( 439)
([11]) القشعان : المشكلات الأخلاقية في المجتمعات الإسلامية وسبل معالجتها ( 2) 
([12])  حنبكة : الأخلاق الإسلامية ( 1/34) 

ليست هناك تعليقات: