السبت، 9 يونيو 2012

نبي الرحمة وصناعة امة رحيمة حضارية


: النبي r يصطنع أمة رحيمة .
كان من  أهم أولويات النبي r هو تخريج أمة تحمل فكر الرحمة منهاجاً وسلوكاً ، وتحمل هم الهداية للبشرية ، وكان هديه بعد بيان سعة رحمة الله إخبار أمته أن تلك الرحمة لا ينالها إلا الرحماء يقول النبي r : « لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ إِلَّا الرُّحَمَاءَ  » ([1]) «   الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ، الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ  . » ([2]) «  ِ ارْحَمُوا تُرْحَمُوا ، وَاغْفِرُوا يَغْفِرْ اللَّهُ لَكُمْ ، وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْلِ ،  وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ. » ([3])  «   لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ » ([4])
بل نراه يستهجن كل موقف يدل على القسوة ، أو ينزع نحو خصوصية الفكر لا عموميته ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : «  قَدِمَ نَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ  r  فَقَالُوا : أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ . فَقَالُوا :  نَعَمْ . فَقَالُوا : لَكِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  r :  وَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنْكُمْ الرَّحْمَةَ . » ([5]) وعن أبي هُرَيْرَةَ t قَالَ: «  قَامَ رَسُولُ اللَّهِ r  إِلَى الصَّلَاةِ وَقُمْنَا مَعَهُ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ : وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا فَلَمَّا سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ   قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ : لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ » ([6])  
فكلا الموقفين كانا موطن استهجان عند رسول الله r الأول لأنه أبرز مظهراً من مظاهر قسوة القلب والغلظة ، والثاني : تضمن خصوصية في الفكر وأثرة لا تليق بأتباع أمة محمد r .
وفي موقف آخر يؤدب أمته على اغتنام كل فرصة من شأنها إسباغ الرحمة على أي فرد من أمته  مهما كانت مكانته ،  عَنْ  يَزِيدَ بْنِ ثَابِتٍ t : «  أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ  r  ذَاتَ يَوْمٍ فَرَأَى قَبْرًا جَدِيدًا فَقَالَ :  مَا هَذَا  ؟ قَالُوا :  هَذِهِ فُلَانَةُ مَوْلَاةُ بَنِي فُلَانٍ فَعَرَفَهَا رَسُولُ اللَّهِ  r  مَاتَتْ ظُهْرًا وَأَنْتَ نَائِمٌ قَائِلٌ ، فَلَمْ نُحِبَّ أَنْ نُوقِظَكَ بِهَا فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ r  وَصَفَّ النَّاسَ خَلْفَهُ وَكَبَّرَ عَلَيْهَا أَرْبَعًا ثُمَّ قَالَ :  لَا يَمُوتُ فِيكُمْ مَيِّتٌ مَا دُمْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ إِلَّا آذَنْتُمُونِي بِهِ فَإِنَّ صَلَاتِي لَهُ رَحْمَةٌ . » وفي رواية : «   إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ »  ([7])
   و للتأكيد على بقاء  فكر الرحمة حاضراً في قلوب الصحابة في جميع الأحوال كان النبي r حريصاً على عدم تغلغل نوازع اللعن والانتقام والقسوة في قلوب أصحابه خاصة في المعارك التي تطيش فيها العقول ، وتقسو مع رؤية الدماء القلوب  ، وكان دائماً يصحح المسار لديهم ليضمن هيمنة فكر الرحمة على وجدانهم ،  وهذا الأمر لمسناه جلياً خلال غزوات النبي r خاصة غزوة أحد وفتح مكة ، أضيف هنا موقفاً هاماً وقع في ساحة الوغى ،   عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : «  قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ  r سَبْيٌ  ،  فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي،  إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ r  : أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ ؟  قُلْنَا : لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ . فَقَالَ : لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا . » ([8])
فالمقام مقام حرب ، تتلاقى فيه السيوف وتطير الدماء ويصبغ لونها الأحمر أديم الأرض ، وبعد الحرب يكون الأسر والسلب ، وفي هذه الظروف تتأثر النفوس مهما بلغ سموها وارتقت  تزكيتها  ، والحروب لا محالة تلقي بظلالها الكئيبة على المحارب ؛ لذا احتاج النبي r إلى درس عملي سريع يعيد لأصحابه فكرهم المنشود ، أو يصحح عواطفهم حال تسرب فكر دخيل بحكم الواقع ، وعبر غبار النقع يجد امرأة من السبي تجري متلهفة تبحث عن ولدها ، وعندما رأته ألقت بنفسها عليه ، وألقمته ثديها الذي تحجر من احتباس الحليب فيها .
يتأمل النبي r الموقف ، ويجد فيه درساً عملياً ، فيغتنمه من خلال سؤال لا يخطر على بال ، ومقارنة محسومة الإجابة : أترون هذه ملقية طفلها في النار ؟ الإجابة حتماً لا ، خاصة أنهم يرون بأعينهم كيف تحتضن هذه المرأة طفلها بتلهف ، والسبب إن وفور الرحمة التي جبلت عليها يحجزها دون الرضا بأدنى إيذاء خارجي له ، فكيف تؤذيه بيدها .
هذه الصورة يراها النبي r مناسبة للتذكير برحمة الله سبحانه وتعالى ، فيقول :  لله أرحم بعبده من هذه بولدها .
فهذا  المشهد اغتنمه النبي r ليربي في أصحابه فكر الشفقة والحنو على العباد خاصة أنهم يدركون أن رحمة الله لا ينالها إلا الرحماء ، وكأن النبي r يقول لهم،كونوا رحماء بالبشرية مشفقين عليها شفقة هذه الأم على ولدها .
وهذه التربية أخرجت زرعها يانعاً وأثمرت للبشرية أمة هي خير أمة أخرجت للناس ، أمة رحيمة متسامحة مشفقة على البشرية حريصة على هدايتها ، أمة شهد لها التاريخ ورموزه ذكر القس ميشون في كتابه ( سياحة دينية في الشرق : « إنه من المحزن أن يتلقى المسيحيون عن المسلمين روح التسامح وحسن المعاملة ، وهما أقدس قواعد الرحمة والإنسانية عند الشعوب والأمم . » ([9]
وتقول المستشرقة الألمانية  زيغريد هونكة : « إن الحكام المسلمين لم يزجوا بأنفسهم في شئون تلك الشعوب الداخلية ، فبطريرك بيت المقدس يكتب في القرن التاسع لأخيه بطريرك القسطنطينية عن العرب أنهم يمتازون بالعدل ولا يظلموننا ألبتة ، وهم لا يستخدمون معنا أي عنف .. لقد أعطى العرب لمن يعتنقوا الإسلام من شعوب البلدان التي فتحوها حرية الديانة ، وحريتهم كمواطنين . » ([10])   
  ويقول الكونت هنري دي كاسترو : « إن المسلمين امتازوا بالمسالمة وحرية الأفكار في المعاملات ومحاسنة المخالفين ، وهذا يحملنا على تصديق ما قاله ( روبسون ) : إن أنصار محمد هم وحدهم الذين جمعوا المحاسنة ومحبة انتشار دينهم ، وهذه المحبة هي التي دفعت العرب في طريق الفتح ، فنشر القرآن جناحيه خلف جيوشه المظفرة .. ولم يتركوا أثراً للعسف في طريقهم إلا ما كان لا بد منه في كل حرب وقتال ، ولم يقتلوا أمة أبت الإسلام » ([11]) .
د . محمد المبيض                    كتابه   نبي الرحمة 


([1]) أخرجه البخاري برقم 5331 [ البخاري ( 5/2141) ]  
([2]) أخرجه الترمذي برقم 1824 ، وقال : حسن صحيح [ السنن ( 4/323) ]
([3]) أخرجه أحمد برقم 6541 [ المسند ( 2/165) ] قال الهيثمي : رواه أحمد ورجاله رجال حبان بن يزيد الشرعبي ووثقه ابن حبان [ مجمع الزوائد ( 10/191) ]  
([4]) أخرجه الترمذي برقم 1923 ، وقال : حديث حسن [ السنن ( 4/323) ]  ؛ وابن حبان برقم 466 [ صحيح ابن حبان ( 2/213) ]
([5]) أخرجه مسلم برقم 2317 [ صحيح مسلم ( 4/1808) ]
([6]) أخرجه الترمذي برقم 147 [ السنن ( 1/275) ]  
([7]) أخرجه مسلم عن أبي هريرة  برقم 956 [ صحيح مسلم ( 2/659) ] ؛ وأحمد واللفظ له [ المسند ( 4/388) ]
([8]) أخرجه البخاري برقم 5653 [ البخاري ( 5/2235) ]
([9]) نقلاً عن الحوفي : سماحة الإسلام ( 92)  
([10]) هونكة : شمس العرب تسطع على الغرب ( 364 )
([11]) كاستري : الإسلام خواطر وسوانح ( 35)  

ليست هناك تعليقات: