: النبي r يصطنع أمة
رحيمة .
كان من
أهم أولويات النبي r هو تخريج أمة تحمل
فكر الرحمة منهاجاً وسلوكاً ، وتحمل هم الهداية للبشرية ، وكان هديه بعد بيان سعة
رحمة الله إخبار أمته أن تلك الرحمة لا ينالها إلا الرحماء يقول النبي r : « لَا
يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ إِلَّا الرُّحَمَاءَ » ([1]) « الرَّاحِمُونَ
يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي
السَّمَاءِ ، الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ
اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ . » ([2]) « ِ ارْحَمُوا تُرْحَمُوا ، وَاغْفِرُوا
يَغْفِرْ اللَّهُ لَكُمْ ، وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْلِ ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ
عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ. » ([3]) « لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ
شَقِيٍّ » ([4])
بل نراه يستهجن كل موقف يدل على القسوة ، أو
ينزع نحو خصوصية الفكر لا عموميته ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : « قَدِمَ نَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ r فَقَالُوا : أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ . فَقَالُوا
: نَعَمْ . فَقَالُوا : لَكِنَّا
وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : وَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنْكُمْ
الرَّحْمَةَ . » ([5])
وعن أبي هُرَيْرَةَ t قَالَ: « قَامَ رَسُولُ اللَّهِ r إِلَى الصَّلَاةِ وَقُمْنَا مَعَهُ فَقَالَ
أَعْرَابِيٌّ : وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا
تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا فَلَمَّا سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ
لِلْأَعْرَابِيِّ : لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ
» ([6])
فكلا الموقفين كانا موطن استهجان عند رسول الله
r الأول
لأنه أبرز مظهراً من مظاهر قسوة القلب والغلظة ، والثاني : تضمن خصوصية في الفكر
وأثرة لا تليق بأتباع أمة محمد r .
وفي موقف آخر يؤدب أمته على اغتنام كل فرصة من
شأنها إسباغ الرحمة على أي فرد من أمته مهما كانت مكانته ، عَنْ
يَزِيدَ بْنِ ثَابِتٍ t : « أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r ذَاتَ يَوْمٍ فَرَأَى قَبْرًا جَدِيدًا فَقَالَ
: مَا هَذَا ؟ قَالُوا : هَذِهِ فُلَانَةُ مَوْلَاةُ بَنِي فُلَانٍ
فَعَرَفَهَا رَسُولُ اللَّهِ r مَاتَتْ ظُهْرًا وَأَنْتَ نَائِمٌ قَائِلٌ ، فَلَمْ
نُحِبَّ أَنْ نُوقِظَكَ بِهَا فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ r وَصَفَّ النَّاسَ خَلْفَهُ وَكَبَّرَ عَلَيْهَا
أَرْبَعًا ثُمَّ قَالَ : لَا يَمُوتُ
فِيكُمْ مَيِّتٌ مَا دُمْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ إِلَّا آذَنْتُمُونِي بِهِ فَإِنَّ
صَلَاتِي لَهُ رَحْمَةٌ . » وفي رواية : « إِنَّ
هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ » ([7])
و للتأكيد
على بقاء فكر الرحمة حاضراً في قلوب
الصحابة في جميع الأحوال كان النبي r حريصاً
على عدم تغلغل نوازع اللعن والانتقام والقسوة في قلوب أصحابه خاصة في المعارك التي
تطيش فيها العقول ، وتقسو مع رؤية الدماء القلوب ، وكان دائماً يصحح المسار لديهم ليضمن هيمنة
فكر الرحمة على وجدانهم ، وهذا الأمر
لمسناه جلياً خلال غزوات النبي r خاصة غزوة أحد وفتح
مكة ، أضيف هنا موقفاً هاماً وقع في ساحة الوغى ،
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : « قَدِمَ
عَلَى النَّبِيِّ r سَبْيٌ ، فَإِذَا
امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ
أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ r : أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي
النَّارِ ؟ قُلْنَا : لَا وَهِيَ تَقْدِرُ
عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ . فَقَالَ : لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ
بِوَلَدِهَا . » ([8])
فالمقام مقام حرب ، تتلاقى فيه السيوف وتطير
الدماء ويصبغ لونها الأحمر أديم الأرض ، وبعد الحرب يكون الأسر والسلب ، وفي هذه
الظروف تتأثر النفوس مهما بلغ سموها وارتقت تزكيتها ، والحروب لا محالة تلقي بظلالها الكئيبة على
المحارب ؛ لذا احتاج النبي r إلى درس عملي سريع
يعيد لأصحابه فكرهم المنشود ، أو يصحح عواطفهم حال تسرب فكر دخيل بحكم الواقع ،
وعبر غبار النقع يجد امرأة من السبي تجري متلهفة تبحث عن ولدها ، وعندما رأته ألقت
بنفسها عليه ، وألقمته ثديها الذي تحجر من احتباس الحليب فيها .
يتأمل النبي r الموقف ،
ويجد فيه درساً عملياً ، فيغتنمه من خلال سؤال لا يخطر على بال ، ومقارنة محسومة
الإجابة : أترون هذه ملقية طفلها في النار ؟ الإجابة حتماً لا ، خاصة أنهم يرون
بأعينهم كيف تحتضن هذه المرأة طفلها بتلهف ، والسبب إن وفور الرحمة التي جبلت
عليها يحجزها دون الرضا بأدنى إيذاء خارجي له ، فكيف تؤذيه بيدها .
هذه الصورة يراها النبي r مناسبة
للتذكير برحمة الله سبحانه وتعالى ، فيقول :
لله أرحم بعبده من هذه بولدها .
فهذا المشهد اغتنمه النبي r ليربي في
أصحابه فكر الشفقة والحنو على العباد خاصة أنهم يدركون أن رحمة الله لا ينالها إلا
الرحماء ، وكأن النبي r يقول لهم،كونوا رحماء
بالبشرية مشفقين عليها شفقة هذه الأم على ولدها .
وهذه التربية أخرجت
زرعها يانعاً وأثمرت للبشرية أمة هي خير أمة أخرجت للناس ، أمة رحيمة متسامحة
مشفقة على البشرية حريصة على هدايتها ، أمة شهد لها التاريخ ورموزه ذكر القس ميشون
في كتابه ( سياحة دينية في الشرق : « إنه من المحزن أن يتلقى المسيحيون عن
المسلمين روح التسامح وحسن المعاملة ، وهما أقدس قواعد الرحمة والإنسانية عند
الشعوب والأمم . » ([9])
وتقول المستشرقة
الألمانية زيغريد هونكة : « إن الحكام
المسلمين لم يزجوا بأنفسهم في شئون تلك الشعوب الداخلية ، فبطريرك بيت المقدس يكتب
في القرن التاسع لأخيه بطريرك القسطنطينية عن العرب أنهم يمتازون بالعدل ولا
يظلموننا ألبتة ، وهم لا يستخدمون معنا أي عنف .. لقد أعطى العرب لمن يعتنقوا
الإسلام من شعوب البلدان التي فتحوها حرية الديانة ، وحريتهم كمواطنين . » ([10])
ويقول الكونت هنري دي كاسترو : « إن
المسلمين امتازوا بالمسالمة وحرية الأفكار في المعاملات ومحاسنة المخالفين ، وهذا
يحملنا على تصديق ما قاله ( روبسون ) : إن أنصار محمد هم وحدهم الذين جمعوا
المحاسنة ومحبة انتشار دينهم ، وهذه المحبة هي التي دفعت العرب في طريق الفتح ،
فنشر القرآن جناحيه خلف جيوشه المظفرة .. ولم يتركوا أثراً للعسف في طريقهم إلا ما
كان لا بد منه في كل حرب وقتال ، ولم يقتلوا أمة أبت الإسلام » ([11])
.
د . محمد المبيض كتابه نبي الرحمة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق