الاثنين، 11 يونيو 2012

العظمة ( منهج النبي في التربية وتعزيز الأخلاق )


منهج النبي r في رعاية قيم المجتمع وأخلاقه وتعزيزها
 لاحظنا كيف مزجت الرسالة بين القيم والأخلاق من جهة ، وبين العقيدة والعبادة من جهة أخرى على اعتبار أن رعاية القيم هو جزء من عقيدة الإنسان وعبادته لربه ، وهذا أكسب القيم قدسية ملزمة للأفراد ، وعزز الضمير الخلقي والحارس الإيماني في كوامنهم ؛ خاصة أن هذا النهج قد بين أن مدار فلاح الإنسان وبواره هو بمدى تمثله بالقيم من الناحية العملية .
إضافة إلى ذلك نَوّع النبي r من الأساليب المعززة للقيم الخلقية في المجتمع ضمن منهج متكامل يمكن بيان خطوطه العامة فيما يلي :
أولاً : تعزيز القيم والأخلاق من خلال القدوة العلياً .
المعلوم أن التربية بالقدوة هو أنجع الوسائل التربوية ، وعلى قدر كمال القدوة وقدرتها في التأثير يكون الأثر في الأتباع ، فكيف إذا كانت القدوة هي المثال البشري الأعلى الذي اصطنعته العناية الإلهية ليكون أسمى مظهر من مظاهر التمثل الخلقي ، قدوة وصفها خالقها بقوله : « وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ » ([1])  ؛ لذا كان الصحابة الكرام يتنافسون على الفضيلة والأخلاق والقيم التي تدنيهم من القدوة العليا ، وهذا يفسر حجم  هذا الجيل الفريد غير المتكرر الذي اصطنعه محمد r والذي أصبح منارة في القيم والأخلاق والفضيلة للبشرية جمعاء ،وهذا واقع لا ينكره الداني والقاصي.
ثانياً : تعزيز التنافس على الفضيلة ببيان عظمة منزلتها .
المعلوم أن النفس البشرية جبلت على حب من أحسن إليها ، وقد استشعر الصحابة الكرام عظيم  المنة والإحسان الذي أسبغه عليهم النبي محمد r بهدايتهم إلى الحق والفضيلة ؛ لذا هاجت أرواحهم وأفئدتهم حباً للنبي r ، وعزز ذلك الارتباط العقدي بين حب النبي r وبين الإيمان ، يقول r : «  لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ . » ([2]
فالارتباط العقدي بين محبة النبي r وبين الإيمان ، وحسن أخلاق النبي r وعظيم إحسانه لمن حوله كل هذه العوامل كانت سبباً في تفجير ينابيع المحبة في قلوب الصحابة للرسول الأعظم والحرص على إرضائه وتقديم محابه على محابهم .
وهذا الاستعداد النفسي للصحابة الممزوج بالشوق والحزن من حرمانهم من رؤية النبي r في الجنة أو مجالسته فيها لعلو منزلته فيها جعلهم يبحثون عن الوسائل التي تقربهم من النبي r في الجنة ؛ لذا بين النبي r أن من أعظم أعمالهم التي تستحق أن يتنافسوا فيها والكفيلة بارتقائهم في الجنة في أعلى الدرجات ، وتكون سبباً في فوزهم برؤية النبي r ومجالسته في الجنة هو الارتقاء في سلم الفضيلة ومدرج الأخلاق والقيم  ، فيقول : «   إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا ، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ  . قَالُوا  : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ ؟ قَالَ الْمُتَكَبِّرُونَ»([3])
وهذا النهج كان له أثره في اهتمام الصحابة في جانب الارتقاء الخلقي ، بل في التنافس في سلم الفضائل .     
ثالثاً : بيان المقصد الأسمى  لبعثة النبي r .
المعلوم في التربية أن عدم تحديد هدف للعمل التربوي يفضي للتخبط والعشوائية ، ويفصل بين الإجراءات والأساليب والوسائل من جهة وبين النتاج التربوي المتوقع حصوله ؛ لذا يحرص التربويون في بداية أي جهد تربوي على وضع الأهداف الرئيسة ثم الأهداف المرحلية ثم الأهداف الفرعية ، والأصل في الأهداف الفرعية والمرحلية أنها تغذي الهدف الرئيس وتعزز من تحقيقه ، فهو الأمل المنشود والنتاج المطلوب .
وهذا الفقه التربوي لم يغب عن صاحب الرسالة ؛ لذا حرص على وضع هدفٍ رئيسٍ لبعثته ومقصد أسمى لرسالته تدور في فلكه كل الجهود والإجراءات التربوية والتزكوية ، وقد بين الرسول الأعظم أن  المقصد الأسمى لرسالته هو نشر الفضيلة وتتميم مكارم الأخلاق : «   إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ – في رواية صَالِحَ  - مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ »  ([4]) ؛ وبهذا الأسلوب استطاع النبي r توجيه الجهود نحو امتثال الفضيلة وتنفير النفوس من الرذيلة ، وفيه تأكيد على أن الرسالة معنية باستقصاء الجانب الخلقي وتتميمه والارتقاء به من جميع الجوانب ، وهذا يفسر لنا تلك المساحة الواسعة والتفصيلية للقيم والأخلاق في رسالة محمد r ، ومن الأخلاق الذي دعا إليها واجتهد على تعزيزها بين المسلمين : بر الوالدين ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار والأمانة والصدق والكرم والإيثار والعدل والاعتدال ، والإخلاص والتواضع ، ومقابلة السيئة بالحسنة ، و التجاوز عن هفوات الآخرين ، والرضا بالقليل ، والقناعة بما قسم الله ، وكظم الغيظ ، والعفو ، وإحسان الظن ، ومقابلة الغير بالبشاشة ، والرحمة بخلق الله ، والإصلاح بين العباد ، والوفاء بالعهد ، وإنجاز الوعد ، وتحرير النفس من ربقة الشهوات ومراقبتها في الله ، واللين في القول ، والرفق في المعاملة ، ونصرة المظلوم وإجابة الدعوة وإغاثة الملهوف ...
ومن الأخلاق الذميمة التي نهى عنها : الفسق والعصيان والفحش في القول
والعمل ، وغلظة القلب ، والبخل والشح ، والكبر والحقد والحسد والرياء ، والسخط والغضب ، والفظاظة والوقاحة وقلة الحياء ، والكسل والبطالة ، والعناد والمكابرة في الحق ، والنميمة والسخرية والغيبة والاستهزاء بالغير أو استصغارهم ، واللعن واللمز والتعيير ، والطيش والخفة ، والطيرة والتشاؤم والشماتة والتهور ، والكذب وشهادة الزور وإفشاء السر ن والتشاحن والبغضاء أو الاستطالة على الأعراض ، والمن بالصدقة أو كفران النعمة ، و الخيانة والمكر والخديعة ، وبخس الكيل والغصب والرشوة  ... إلخ
ومن تتبع هدي النبي r  يجد أنه قد أشبع التفصيل والاستقصاء في الأمر بالفضيلة وإن صغرت  أو النهي عن الرذيلة وإن قل خطرها  .
رابعاً : تنويع الأساليب والإجراءات والوسائل المعززة للقيم والفضائل في المجتمع .
هذا باب لا يمكن استقصاؤه من حياة محمد r ؛ لأن كل ثانية من حياة النبي الأعظم خلال الثلاثة وعشرين سنة من رحلة النور في بعثته كانت تتضمن أسلوباً أو إجراءً يعزز الفضيلة في المجتمع ، من ذلك استخدام الأسلوب القصصي الشيق لتعزيز الفضيلة ، كقصة الثلاثة الذين آواهم المبيت بالغار التي تبرز الأثر المبارك للفضيلة والمنجي لصاحبه من الهلاك ، وبعضها يبرز أثر الفضائل والقيم في دوام النعم منها قصة الأقرع والأعمى والأبرص ، وبعضها يبرز أثر التمسك بالفضيلة وعاقبة ذلك على صاحبها مثل قصة الغلام والساحر ،  وبعضها يبرز الأثر الطيب للوفاء والأمانة كقصة الرجل الذي استلف ألف دينار ولم يستطع ردها في موعدها  .. إلخ
كذلك استخدم الحوار في التربية والتزكية الخلقية من ذلك قصة الفتى الذي طلب من النبي r أن يأذن له بالزنا فحاوره النبي r حتى أقنعه بالعفة ، ومن ذلك أسلوب العرض الاستفهامي الشيق  كقول النبي r : أتدرون من المفلس ؟ ومن ذلك قوله r : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟  ومن ذلك أيضاً الوصية عند الحاجة إليها من السائل ، ومثالها الرجل الذي طلب من النبي أن يوصه ، فقال له النبي r : لا تغضب ، وقد كان يتنوع العلاج لصحابته بحسب اطلاعه على أحوالهم ، لذا كانت إجابته تختلف على نفس الطلب ، وفي الغالب كان المنهج العلاجي والوصية يتركزان على جانب التزكية الخلقية .
وهكذا تتنوع الوسائل والأساليب النبوية المعززة للفضيلة والمنفرة من الرذيلة ، وهذا نزر قليل ذكرته للتنبيه إلى عظمة الجهد النبوي في التأكيد على القيم وتجسيدها في المجتمع  .


([1]) القلم : الآية 4
([2]) أخرجه البخاري برقم 15   ( 1/14)   
([3]) أخرجه الترمذي برقم   2018 ، وقال : حديث حسن غريب   ( 4/370)  
([4])  سبق تخريجه   

ليست هناك تعليقات: