الجمعة، 11 مايو 2012

مساحة ثقافة السلام في الإسلام


مساحة ثقافة السلام في الإسلام
أحياناً يستغرب المسلم من تلك الدعاوى المغرضة التي تحاول أن تصف الإسلام وتعاليمه بأنها تعاليم عنف أو معززة له ، ومهيجة عليه في العالم ، بل بعض الدعاوي توحي بأن القرآن ونهج النبي وسيرته هو بمثابة مادة تحريضية على العنف ، وكأن الإسلام لا علاقة له بالسلم أو ثقافة السلام ، مع أن الحقيقة والواقع والتعاليم تثبت أن من أهم مميزات الإسلام هو تلك المساحة الواسعة لثقافة السلام فيه ، بل فكرة السلام تحتل المقام الرئيسي بين أهداف الإسلام العامة ، وأمكن توضيح تلك الأدبيات العامة التي تدل على تلك المساحة الواسعة للسلام في الإسلام في النقاط التالية .

أولاً : الله هو السلام ودينه مشتق من السلام وداره دار السلام .
يقول الله I : « هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ . » ([1]لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ » ([2]) « وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ » ([3]) « إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ » ([4]) « وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً » ([5])
هذه الآيات تبرز أن من أسماء الله السلام ، وأن جنته التي يدعو إليها هي دار السلام ، ودينه الذي ارتضاه مشتقة مادته من السلام ، وهو دين الإسلام ، وهذا التوجيه يبرز أن السلام هو شعار رسالي عام في دين الإسلام .
ثانياً : السلام تحية المسلمين ،وهو تحية أهل الجنة، والمسلم هو من يعزز السلام.
كان من جهود النبي r أن أبدل تحية الجاهلية بتحية خاصة بالمسلمين ، هذه التحية شعارها الأوحد هو السلام ، وإلقائها على المسلم يتضمن إعطاء الأمان والدعوة بالسلام والأمن لصاحبها ، والتحية وردها يتضمن السلام والمسالمة : « السلام عليكم ورحمة الله وبركاته » « وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته . » ويلحظ في التحية أنها قدمت السلام على الرحمة والبركة ، وفي هذا إشارة إلى أن السلام في أعلى سلم أولويات الرسالة ، وكذلك هذه التحية اختارها الله I لأهل الجنة ، يقول الله I : « وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ » ([6])  ، بل الجنة محرمة على العباد إلا إذا أشاعوا السلام وأفشوا معانيه بينهم ، يقول النبي r : « وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ، حَتَّى تُؤْمِنُوا ، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ  . » ([7]) وعندما عَرَّف النبي r المسلم قال : « الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ ويَدِهِ » ([8]) ، فالمسلم الحق هو ذلك الإنسان الذي يسلم الناس من شروره وموبقاته وعدائيته ، أما  الهدف الأسمى لرسالة الإسلام وكتابها المهيمن فهو في تيسير طرق السلام وسبلها والإرشاد لها ، يقول الله سبحانه وتعالى :  « قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ،يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ » ([9])

ثالثاً : نبي السلام في العهد القديم ورسول الرحمة العالمية في القرآن .
ثبت لدينا أن النبي محمد r كان بشارة الأنبياء قبله ، وقد جاء التصريح على لسان عيسى r أنه بشر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد ، والذي يعنيني من هذه البشارات هي بشارة أرميا في العهد القديم ؛ أي في أسفار اليهود ، وهذه البشارة جاء التصريح فيها بأن النبي الموعود هو نبي السلام ، وفيها : « إن الأنبياء الذين كانوا قبلي وقبلك من القديم وتنبئوا على أراضي كثيرة وممالك عظيمة بالحرب والشر والوباء ، النبي الذي تنبأ بالسلام ، فعند حصول كلمة النبي عرف ذلك النبي أن الرب قد أرسله حقاً . » ([10])  وهذه البشارة وردت بلفظ أصرح في بعض النسخ وفيها النبي الذي يبشر بالإسلام . ([11]) وسواء كان نبي السلام أو نبي الإسلام ، فالمادة واحدة ومدلولها متقارب ، ولو وقفنا على النسخ المعتمدة حالياً ففيها بحسب سفر أرميا بشارة بنبي السلام ، والمتتبع لهدي النبي محمد r يجد أن تحقيق الأمن والسلام في عهده كان من أهم وعوده الرسالية ، والمتتبع لقراءات المستشرقين الموضوعية نجد فيها شهادة منصفة للنبي محمد r بأنه غير بوصلة البشرية من دائرة العنف والحروب إلى دائرة الأمن والسلام والعدالة والخير والفكر الحضاري ، وقد ذكرت بعضاً من هذه النصوص وسأذكر في نهاية الكتاب زمرة منها وكلها تشهد بشهادة الواقع أن محمد r كان بحق نبي السلام .
وفي رسالة الإسلام جاء توصيف النبي r باعتباره رسول الرحمة العالمية ، وذلك في قوله سبحانه وتعالى : } وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ  { ([12]) ومقتضى هذا التوصيف إشارة لشمولية فكر الرحمة لكل الخطوات العملية التي قام بها صاحب البعثة ، و كل تصرف يقع من النبي r   خلال رحلة النور التي بدأت بالبعثة وانتهت بالوفاة يندرج تحت هذا العنوان ؛ حيث أمكن ملاحظة هذا المعلم  في دعوة النبي r   وجهاده وتربيته وهديه ، ولا أجانب الصواب إن قلت أن البشرية لم تر تجسداً لصفة الرحمة في الفكر والمنهاج والسيرة والسلوك كما تجسد في شخص الرسول الأعظم محمد r   ، لذا استحق أن ينسب في الآية للرحمة نفسها لا أن يوصف بها فقط ، فهو ليس رحيماً فقط بل هو الرحمة بعينها ؛  بمعنى أنه لا يتصور حصول معاني الرحمة الحقيقية للبشرية إلا بهدي المصطفى ،، يقول  المؤرخ الإنجليزي وليم موير في كتابه حياة محمد  : « إن حياة محمد التاريخية لا يمكن أن توصف بأحسن مما وصفه الله نفسه بألفاظ قليلة بين فيها صفة النبي حيث قال : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ  ) إن يتيم آمنة العظيم قد برهن بنفسه على أنه أعظم الرحمات لكل ضعيف ، ولكل محتاج إلى المساعدة . » ([13]). ومن هذا الوجه أشار النبي r لنفسه بقوله : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ !  إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ  »  ([14])  فالنبي محمد r هو هدية السماء لتوجيه البشرية كل البشرية إلى الخير والأمن والاستقرار بعيداً عن وسائل الشر ، ومن هذا الوجه كان النبي محمد r بحسب توصيف النبي آرميا نبي السلام ، ومن تتبع حياة الأنبياء الصغار في أسفار العهد القديم يجد أن التنبؤ بالحروب هو السمة البارزة ، ولم تأت هدية رحمة عالمية لكل البشرية إلا ببعثة محمد r . والرحمة والسلام متلازمان حيث يعتبر السلام من أهم ثمار الفكر الرحيم ، بل مادة الإسلام التي تعتبر رسالة محمد r هي مشتقة من مادة السلام في أصل اللغة مما يشير إلى التلازم الفكري بينهما .
رابعا : تحقيق السلام والأمن يعتبر في أعلى سلم الأولويات والحاجات في رسالة الإسلام .
يرشد إلى ذلك قوله تعالى : } الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ { ([15])    فالآية
جاءت من باب الامتنان على قريش بتوفير أعظم الحاجات لهم وكان أولويات الحاجات توفير حاجة الطعام بما يدفع عنهم حاجة الجوع التي تعتبر أهم وأمس الحاجات الإنسانية ، والحاجة الثانية في الأولوية كانت توفير الأمن بدفع حالة الخوف عنهم ، وهذا يشير صراحة إلى أن حاجة الأمن في الإسلام هي في أعلى سلم الأولويات وهذا يستلزم أن يكون معالجة السلم والأمن في أعلى سلم المعالجات الإسلامية ، وقد جاءت آيات أخرى للتأكيد على هذه المسلمة منها قوله تعالى : } وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ { ([16]) فالآية التي سيقت في مقام المثل بينت أن أهم الأولويات هو الأمن يأتي بعده التوسعة في الرزق ، وعلى مستوى الحاجات يأتي دفع الجوع ثم الخوف باعتبارهم في أعلى سلم الأولويات ، وهذا السياق الترتيبي للأولويات يبرز مدى أهمية السلام والأمن في رسالة الإسلام ؛ هذه الأهمية انعكست على طبيعة المعالجة الواسعة لهذا الجانب بما يكفل تحقيقه بأكمل صورة ، وسيتضح لنا في البند التالي أن تحقيق حاجة الأمن كان من أهم أهداف النبي محمد r ووعوده لأمته .        

خامساً : أهم أهداف نبي السلام ووعوده انصبت في تحقيق السلم والأمن .
بعث النبي r في مرحلة تعتبر الأكثر زعزعة على مدار التاريخ ، حرم فيها الناس خاصة في جزيرة العرب من نعمة الأمن ، و لم ينعم بها على وجه الخصوص إلا أهل مكة بحكم مجاورتهم للبيت الحرام ، أما باقي الجزيرة العربية فقد ساد فيها ثقافة السلب والنهب والاقتتال لأتفه الأسباب حتى أفنت الحروب المتوالية أكثر رجالهم ([17]) ، وكانت قبائل بأكملها تمتهن مهنة السلب والنهب وقطع الطريق كبعض قبائل طيء وغيرها ،  أضيف إلى ذلك انتشار جرائم القتل المتنوعة في داخل المجتمع ، بل الفاقة والفقر كانا كفيلين بحرمان كثير من الأطفال من حياتهم في بدايتها وعلى يد أقرب الناس إليهم ، ولم يسلم المجتمع في ليله من كثير من حالات الاغتيال والغدر ، وكان لغياب الأمن أثره على العربي الذي لم يكن ينام الليل ؛ حيث يبقى على أعلى درجات الاستنفار ، ويجد نفسه دائماً بين خيارين : إما يجهز نفسه للإغارة على الغير وسلبهم ، وإما يتحين وقوع الغارة عليه من الغير .
في ظل هذا الواقع المرير بدأ النبي r رسالته ، وجعل من أسمى الغايات التي يبشر بها ويحرص على تحقيقها : توفير الأمن الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع ورعاية السلم الأهلي في ظل هذا المجتمع الغابي ؛ لذا بدأ رسالته بوعود متكررة تدل على أن هذه الغاية ستتحقق في المجتمع بأكمل وجه ، وتصدر منه هذه الوعود  وهو لا يستطيع أن يحقق لنفسه ولا لأقرب الناس إليه الأمن من غيلة قريش وغدراتهم ، يأتيه خباب t  وهو متوسد بردة في حجر الكعبة مع غيره من المعذبين يشكون له ما أصابهم قائلين له :  « أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا ! أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا ! فقَالَ لهم النبي r  : كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ ، فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ  فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ » ([18]
هذه الكلمات خرجت من فم النبي r في أحرج الظروف من الناحية الأمنية ، وقد تضمنت وعداً وبشارة بتحقيق الأمن للمجتمع بأسره  حتى أقصى جنوب الجزيرة ، ويقطع  الراكب مسافات شاسعة  آمناً لا يخاف على نفسه ولا على غنمه إلا من قدر السماء وعوادي الوحوش،أما من جهة أخيه الإنسان فسيبلغ الأمن من جهته مداه .
وكان وعد النبي r وبشارته بتحقيق الأمن المجتمعي والاقتصادي  أمراً لا تتصوره العقول خاصة في ظل الواقع المعقد الذي وصل إليه العرب ، وتلك الثقافة المميتة التي تشربتها عقولهم ،  عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ t قَالَ : «  بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ  r  إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ ، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ فَشَكَا إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ . فَقَالَ  : يَا عَدِيُّ هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ  ؟ قُلْتُ : لَمْ أَرَهَا وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا . قَالَ : فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللَّه . َ قُلْتُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي : فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ الَّذِينَ قَدْ سَعَّرُوا الْبِلَادَ ؟
وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى .  قُلْتُ . كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ !! قَالَ :  كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ .
وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنْهُ ...    
 قَالَ عَدِيٌّ :فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ ، وَكُنْتُ فِيمَنْ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ لَتَرَوُنَّ مَا قَالَ النَّبِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ  r  يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ . » ([19]
هذه وعود صدرت من النبي r في لحظة كان يتصور سامعه استحالة وقوعها أو بعده ، وعندما أشار النبي r إلى أن المرأة ستخرج لوحدها آمنة مطمئنة من ناحية العراق تجوب كبد الجزيرة العربية إلى أن تصل الحجاز ، تعجب عدي t ، وقال في نفسه مستبعداً مرحلة حصول هذه البشارة لما يرى من الصعوبات والعقبات التي تحول دون وقوعها لعل أهمها تلك القبائل التي تشتهر بالسلب وقطع الطريق بحيث تخافها القوافل المسلحة فكيف بامرأة مجردة عن كل وسائل الدفاع ؛ لذا قال في نفسه  : فأين صعاليك طيء أو قطاع الطرق فيها الذين دمروا البلاد نهباً وسلباً ، ماذا سيكون حالهم في تلك المرحلة ؟ وعندما وعد بالنصر على كسرى زاد عجبه ، وعندما وعد النبي r بتحقيق الأمن الاقتصادي ؛ بحيث يشمل كل فرد في المجتمع ، بل يزيد المال عن حاجتهم زاد الأمر غرابة في نفسه ... وما هي إلا سنوات قلائل حتى عاين عدي بنفسه أن الأمن المجتمعي قد بلغ مداه كما قال النبي r وكان أحد الفاتحين لكنوز كسرى ، أما بلوغ  الأمن الاقتصادي مداه فهذا حصل مع انخرام القرن الأول في عهد عمر بن عبد العزيز الذي كان يطوف بالصدقة فلا يجد من يقبلها .
فهذا التغير السريع وغير المتصور على مستوى الأمن والرخاء ليشير صراحة إلى عظمة الجهد الذي قام به النبي r وتلك الحكمة المتناهية التي رزقها ؛ بحيث قام بما عجزت عن جزء منه  منظمات دولية بكل إمكانياتها الضخمة  .... إنها ثقافة سلام عملية بسيطة في محتواها ، عظيمة في إنجازاتها ، واقعية في أطروحاتها ، منسجمة مع فطرة الإنسان ، إيجابية في تعاطيها مع الأزمات ، ربانية في قدسيتها ، عميقة ومتكاملة في معالجاتها ، بعيدة كل البعد عن الشعارات والقوانين التي تصطدم مع الواقع ، فترتد إلى السطور وتكون عبئاً عليها بحيث لا تستحق ثمن الحبر الذي سُودت بها تلك السطور .. إنها ثقافة نبي السلام .
كذلك هذه النتيجة المذهلة على مستوى الأمن والرخاء  لتدل صراحة على أن تحقيق الأمن الاقتصادي والاجتماعي كان جزء من غايات النبي السامية التي يحرص عليها ؛ لذا عندما نصفه بأنه  رسول الأمن والسلام في الأرض لا نجانب الصواب بل هو الأولى بهذا اللقب على مستوى البشرية كلها ، وما زالت تعاليمه هي الأقوى والأنجع في تحقيق الأمن والسلم العالميين .  

سادساً  : ثقافة السلام و العبادة .
يتضح ذلك في كثير من أشكال العبادة من ذلك الصلاة ؛ حيث يلقي المسلم على نبيه التحية فيقول : « السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته . » ثم يلقي تحيته لنفسه ولإخوانه بقوله : « السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . » ولا تختتم الصلاة إلا بالتسليم بأن يتجه المصلي بوجهه ناحية اليمين ويقول السلام عليكم ، وناحية اليسار يقول أيضاً السلام عليكم ، وكأنه مطالب أن يبدأ الدنيا من كل نواحيها وأهلها بالسلام بعد أن فارقها لمناجاة ربه .
ومن الأدعية الثابتة عن النبي r بعد الصلاة يومياً ، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ، والدعاء هو العبادة أو روحها ، فالصلاة في وسطها السلام وتختم بالسلام ويدعو المسلم بعدها بالسلام .
أما الصوم فله متعلق بثقافة السلام ؛ لذا يبدأه النبي بالابتهال بتحقيق السلام من خلاله ، عن طلحة بن عبيدِ اللهِ  t  أنَّ النبيَّ  r  كَانَ إِذَا رَأى الهلاَلَ ، قَالَ : (( اللَّهُمَّ أهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالأمْنِ وَالإيمانِ ، وَالسَّلاَمَةِ وَالإسْلاَمِ . » ([20])
كذلك الحج يعتبر مدرسة عملية تهدف إلى تعزيز ثقافة السلام ؛ حيث ارتبط بالحرم المكي الذي أحد أبوابه باب السلام ، وخلال الإحرام لا يجوز للمُحرم أن يقتل صيداً أو  حيواناً  ولا يقطع شجرة أو يؤذي أحداً بيده ولسانه حتى لو وجد قاتل أبيه وجهاً لوجه لا يستطيع أن يمسه بشيء ، فهو بهذا الإحرام قد أصبح سلماً لنفسه ولغيره من إنسان أو حيوان أو نبات .

سابعاً : الإسلام وإقرار السلام دون قيد أو شرط .
المعلوم أن رسالة الإسلام ودولته قد نشأت في ظل مجتمع وثني لا يعرف ولا يحتكم إلا إلى منطق القوة ؛ لذا جاء الأمر الرباني بإعداد جيش قوي يحقق التوازن الكفيل بتعزيز السلم العام ، يقول الله I : « وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ، وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ،  وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ » ([21])
فهذه الآيات تبرز أن أهم أهداف إعداد جيش قوي هو توجيه القوى الأخرى نحو الجنوح للسلم مع المسلمين ، ويأتي الأمر الرباني بمطالبة النبي r لاحترام أي بادرة نحو السلام من الأعداء والاستجابة لها حتى لو لم يكن هذا العدو مخلصاً في توجهاته نحو السلام أو يقصد بها كسب الوقت استعداداً لحرب أخرى ، أو يريد أن يخدع المسلمين مبيتاً الغدر بهم أو إلحاق الضرر بمصالحهم « وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ »  ، ومع كل هذه التوجسات إلا أن الإسلام يحتم النزول عند رغبات العدو السلمية . ([22])
وقد تميز الإسلام بهذه العقلية التي تجيز الموافقة على إقرار السلام فوراً دون قيد أو شرط بمجرد إقدام العدو على طلب إقراره مهما تكن الظروف والأحوال ، وهذا مبدأ سامي تميز به المسلمون عن غيرهم ، وتفعيل هذا المبدأ إنما يكون عند توفر نوع من التوازن في القوى . ([23])

ثامناً  : السلم والحرب في أدبيات الرسالة .

من تتبع آيات القرآن يجد أن مادة « سلم » ومشتقاتها قد وردت فيما يزيد على 133 مرة
بينما لفظة حرب لم ترد في القرآن الكريم إلا في ست آيات ، وهذا يبرز المساحة الواسعة لثقافة السلام في رسالة محمد r .
خلاصة

هذه بعض العناصر والأدبيات المباشرة التي تدل على مساحة ثقافة السلام في رسالة محمد r ، وهي تبرز بوضوح أن السلام هدف رسالي ومبدأ أساسي تسعى الرسالة إلى تحقيقه على مستوى السلم الأهلي والخارجي ؛ وتتميز رسالة محمد r بمنظومة قيم واسعة ونهج دعوي رحيم ومتسامح وأدبيات متنوعة تتفاعل مع بعضها لخلق ثقافة سلام على مستوى الذات ( الفرد ) والأسرة والمجتمع المحلي والمجتمع العالمي والإنسانية جمعاء ، وهذا ما سيتضح لنا خلال العرض التأصيلي والتفصيلي في الفصول اللاحقة .  


([1]) الحشر : الآية 47
([2]) الأنعام : الآية 127
([3]) يونس : الآية 25
([4]) آل عمران : من  الآية 19
([5]) المائدة : من الآية 3
([6]) يونس : من الآية 10
([7]) أخرجه الترمذي برقم 2510   ( 4/644) ؛  قـال الهيثمي: رواه البـزار ، وإسناده جيد [ مجمع الزوائد ( 8/30) ]
([8]) أخرجه البخاري برقم 6484 ( 8/102 )
([9]) المائدة : 15-16
([10])  سفر أرميا : الإصحاح الثامن والعشرون ( 6-7) 
([11]) انظر داود : محمد كما ورد في كتاب اليهود والنصارى ( 75) ؛   
([12])  الأنبياء : الآية 107
([13])نقلاً عن عبد الوهاب : محمد رسول الإسلام في نظر فلاسفة الغرب ( 45)   
([14])  أخرجه الدارمي برقم 15 [ مسند الدارمي ( 1/21) ] ؛ والحاكم برقم 100، وقال صحيح على شرط الشيخين [ المستدرك ( 1/91) ]
([15]) قريش : الآية 4
([16]) النحل : الآية 112  
([17]) انظر مبحث السلم والحرب في المبحث التمهيدي ففيه تفصيل لطبيعة الثقافة التي تميزت بها جزيرة العرب قبل الإسلام .   
([18]) أخرجه البخاري برقم  3612 ( 4/201)
([19]) أخرجه البخاري برقم  3595 ( 4/197)
([20]) أخرجه الترمذي برقم 3451 ، وقال : حسن غريب ( 5/504)
([21]) الأنفال : الآيات 60-62
([22]) انظر ابن كثير : تفسير القرآن العظيم ( 4/84) ؛ ابن عاشور : التحرير والتنوير ( 10/59 وما بعدها )
([23]) انظر : خطاب : الرسول القائد (14) 

ليست هناك تعليقات: