الجمعة، 11 مايو 2012

أسرار رضاع النبي محمد في ديار سعد


: مرحلة الرضاع في ديار سعد :
من عادة  العرب ساكني الحضر،خاصة الأشراف منهم أنهم كانوا يرضعون أولادهم
في البوادي ، فهو أصح لأجسامهم بعيداً عن أوبئة الحضر ، وأفصح للسانهم ، وأقوى لقرائحهم وجنانهم .
وكان أهل البوادي يرغبون في الإرضاع طمعاً في المعروف والأجر الذي ينالونه من آباء الرضع ، فهي تمثل لنسائهم مهنة تعوضهم الفاقة والقحط الذي يتعرضون له في البوادي .
وفي سنة جدباء على ديار سعد بن بكر جاءت نساؤهم إلى مكة يلتمسن الرضعاء ، وكان من بينهن حليمة السعدية ، تقول حليمة عن تفاصيل ذلك الحدث : « ..  فخرجت على أتان لي قمراء معنا شارف لنا والله ما تبض بقطرة (_ ) ، وما ننام ليلنا أجمع من صبينا من بكائه من الجوع ، ما في ثدي ما يغنيه ،  وما في شارفنا ما يغذيه ،  ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج ، فخرجت على أتاني تلك فلقد أدمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفا وعجفا ، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء  ، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله  r  فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم ،  وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول : يتيم وما عسى أن تصنع أمه وجده  ؟ فكنا نكرهه لذلك ، فما بقيت  امراة قدمت معي إلا أخذت رضيعا غيري ،  فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي : والله إني لأكره أن ارجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا ، والله لأذهبن الى ذلك اليتيم فلآخذنه . قال : لا عليك أن تفعلي عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة .  قالت : فذهبت إليه فأخذته وما حملني علي أخذه إلا أني لم أجد غيره ، فلما أخذته رجعت به الى رحلي ، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتى روي ، وشرب معه اخوه حتى روي ،  ثم ناما وما كنا ننام معه قبل ذلك ، وقام زوجي الى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل ، فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا ريا وشبعاً ، فبتنا بخير ليلة فقال صاحبي حين أصبحنا : تعلمي والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة  فقلت : والله إني لأرجو ذلك قالت : ثم خرجنا وركبت أتاني وحملته عليها معي ، فوالله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شيء من حمرهم حتى إن صواحبي ليقلن لي : يا أبنة أبي ذؤيب ويحك ! أربعي علينا ،  أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها ؟  فأقول لهن : بلى والله إنها لهي هي . فيقلن :  والله إن لها لشأناً . قالت : ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها ، فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا شباعا لبنا ، فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع ، حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم : ويلكم ! أسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب  ، فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن ، وتروح غنمي شباعا لبنا فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته  ، وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا . » ([1])
هذه البركة غير المعهودة التي رأتها حليمة مع قدوم محمد r جعلها وزوجها أكثر تمسكاً في هذا الطفل فما أن انتهت سنتا الرضاعة  ، حتى عادت لأمه ترغبها في إطالة مدة مكثه في ديار سعد ، ووافقت أمه آمنة على ذلك فمكث أشهراً في ديار سعد حتى وقعت حادثة شق الصدر ، وجاءها ابنها جزعاً وقال لها : « إن أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه » ، وكان لهذا أثره على حليمة فقررت رده إلى أهله خوفاً من أن يصيبه مكروه ، فتعجبت آمنة من هذا التغير المفاجئ عند حليمة ، وأصرت على معرفة السبب فأخبرتها حليمة بالأمر ، فقالت آمنة لها : أتخوفت عليه من الشيطان ؟ فقالت حليمة : نعم ، فقالت : آمنة كلا والله  ! ما للشيطان عليه من سبيل وإن لابني هذا شأناً ، دعيه عنك وانطلقي راشدة .
هذا مجمل مرحلة الرضاعة في ديار سعد ، ولي معها عدة وقفات تفصيلية هامة :

الوقفة الأولى : وحرمنا عليه المراضع من قبل
مرحلة الرضاع وبيئته تعتبر من أهم مراحل التربية ؛ لذا هيأت العناية الإلهية للحبيب محمد r البيئة المناسبة له شأنه في ذلك شأن سادات قريش ، وكان لهذه التربية أثر واضح في أخلاق النبي r وفصاحته ، يقول الزمخشري عن تلك الفصاحة التي اكتسب النبي r بذرتها الأولى في ديار سعد : «  هذا اللسان العربي كأن الله عزت قدرته مخضه وألقى زبدته على لسان النبي  r   فما من خطيب يقاومه إلا نكص متفكك الرجل وما من مصقع يناهزه إلا رجع فارغ السجل » ([2])  
هذا بخصوص البيئة ، أما بخصوص البيت الذي نال شرف التربية الأولى لمحمد r ، فقد اختار الله I له أفضل بيوت بني سعد خصالاً ، وهذا واضح من تفاصيل القصة حيث أن كل نساء سعد رفضن أخذ محمد r ليتمه ، ولم ييسر الله لحليمة أي طفل من رضعاء مكة ، فبقيت المرضعة الوحيدة وبقي محمد r الفرصة الوحيدة أمامها ، وفي ليلة مباركة قبل رحيل نساء سعد دار هذا الحوار بين حليمة وزوجها ؛ حيث قالت له : « والله إني لأكره أن أرجع ولم آخذ رضيعاً ، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فآخذه ،فقال لها زوجها : لا عليك أن تفعلي عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة.» ([3])   
هذا الحوار يبرز لنا أننا أمام عائلة كريمة فيها عطف وحنان ورحمة ، تنظر إلى عطاء الله وبركته أكثر مما تنظر إلى الأسباب الظاهرة ، هذه العائلة هي الأنسب ليتربى في كنفها نبي الرحمة محمد r ، وهذا الحوار بين هذين الزوجين بما تضمنه من معاني إنسانية تسجل لهما نالا به الجزاء الأوفى من الله فأكرما بأعظم هدية على وجه الأرض ، وانقلبا بأعظم نعمة عرفتها البشرية .

الوقفة الثانية : ( حليمة وامرأة عمران ) حملت يتيماً معها لديار سعد والله أعلم بما حملت !!!
بين القرآن أن امرأة عمران رضي الله عنها قد نذرت ما في بطنها خالصاً لله ولخدمة بيت المقدس فعندما وضعتها أنثى أحست بحسرة في قلبها خاصة أنها تعلم أنه لا يصلح لخدمة بيت المقدس إلا الذكور ، فقالت بما يوحي بالاعتذار والحسرة  بين يدي الله  « وإني وضعتها أنثى » ؛ أي عذراً يا رب لأنني وضعت أنثى لا تصلح لخدمة بيت المقدس ، فجاء الرد الرباني بصيغة التعظيم « والله أعلم بما وضعت » ؛ أي أن الله الذي خلقها وسواها وقدرها يعلم أنها أنثى ، ولا داعي للحسرة يا امرأة عمران لأنك لا تعلمين أن التي وضعتها ليست أنثى عادية ، بل هي سيدة نساء العالمين قاطبة .. إنها مريم الصديقة العذراء الطاهرة البتول  شقيقة الأنبياء في الدرجة وإن لم تكن نبية ، وهي أم لرسول من أولى العزم تلده بطريقة مغايرة للبشر جميعا، فالله أعلم بما وضعت  يا امرأة عمران .  
وعودة إلى الحبيب محمد r وقصة الرضاعة في ديار سعد والتي تكرر فيها نفس الموقف ،  حيث ذهبت حليمة وأخذت هذا الطفل اليتيم ،  وحملته معها على حمارتها وانطلقت به لديارها  ، والله أعلم بما حملت معها !!! كما أن الله أعلم بحقيقة تلك الأنثى التي وضعتها امرأة عمران من قبل !! حليمة في ظنها أنها حملت معها طفلاً يتيماً أقصى ما تتصوره هو أن تنال بركة يتمه كأي طفل يتيم ، والله أعلم بما حملت ؛ لقد حملت بين يديها سيد الكونين ، وضمت إلى صدرها الرحمة العالمية للبشرية جمعاء وسيد ولد آدم قاطبة ، واحتضنت مدة أكثر من سنتين أعظم نسمة بشرية مباركة هي محط نظر الله I وعنايته ؛ لذا لا غرابة من كل هذا التغير المفاجئ على بيت حليمة وديار سعد ، الحمارة التي دبت الحياة فيها بشكل غير معهود  ، الناقة العجفاء التي درت الحليب غزيراً  ، جريان الحليب غزيراً في ثدي حليمة ، فرحة الأرض بديار سعد وتزينها خدمة لأكرم مخلوق على الأرض ، لا غرابة من ذلك ولئن لم تتزين الأرض لمحمد r ، فلمن تتزين إذاً .
 والله أعلم بما حملت !!! بعد سنتين في ديار سعد وفي كنف حليمة علمت حليمة أن هذا اليتيم الذي حملته معها من مكة كان نسمة مباركة عاينت في كل لحظة في السنتين ملامح  هذه البركة وثمارها ، وقالت قولتها : « فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه . » هذا هو حدود علمها خلال السنتين ، هناء وخير وبركة  والله أعلم بما حملت !! لكنها لم تكن تعلم أنها أيضاً قد نالت شرفاً عظيماً تحسده عليها كل نساء الأرض لو علمن ، فهي قد احتضنت وأرضعت طفلاً يُصطنع ليكون رحمة للعالم أجمع : إنسه وجنه إلى قيام الساعة ، إن من ترضعه سيرتضع من فكره وسنته ومنهجه وحكمته كل رحماء الأرض وحكمائها وعدولها إلى قيام الساعة ، إن من ترضعيه يا حليمة هو من سيحمل مفاتيح السعادة للبشرية كاملة ، فهنيئاً لك يا حليمة على هذا الشرف العظيم .  
الوقفة الثالثة : البركة والخير والنماء رديف محمد r أينما حل .
تلك التغيرات المباركة التي حلت بدار حليمة السعدية ، بل بمراعي ديار سعد ، وتحولها من حال الجدب إلى النماء تتضمن إشارة هامة وهي أن نبي الرحمة رديف لكل خير وبركة ونماء في الأرض حيثما حل ، وكما أن هناك أسباباً للخير على الأرض ، فالأجدر بالحبيب محمد r أن يكون في مقدمة أسباب البركة والخير الإلهي خاصة وأنه في قدر الله I يصطنع ليكون عنوان أعظم رحمة عالمية بالبشرية .
كذلك هذه التغيرات تضيف رصيداً قوياً دالاً على صدق نبوته ، فهذه الأحداث وقعت معه وهو طفل رضيع لا حول له ولا قوة وقبل إعلانه النبوة بأربعين سنة تقريباً مما يشير إلى أن الأمر كان خارجاً عن إرادته .
رابعاً : حادثة شق الصدر .
تعتبر حادثة شق الصدر من أبرز مظاهر الاصطناع والرعاية الربانية بمحمد r ، وقد ورد أنها تكررت عدة مرات ، وأولها ما حصل وهو في ديار سعد ، يقول أنس t : «  أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  r  أَتَاهُ جِبْرِيلُ r  وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً فَقَالَ :  هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ،  ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ لَأَمَهُ ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ - يَعْنِي ظِئْرَهُ -  فَقَالُوا : إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ .  قَالَ أَنَسٌ : وَقَدْ كُنْتُ أَرْئِي أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ  . »  ([4])
هذه صورة حادثة شق الصدر وهي حادثة حسية ، وأما العلقة التي أخرجها الملك ، فهي علقة خلقها الله في قلوب البشر قابلة لما يلقيه الشيطان فيها ، فأزيلت من قلبه ، فلم يبق في قلبه مكان لأن يلقي الشيطان فيه شيئاً .
وهذه الحادثة التي تشير إلى عملية تطهير معنوي لقلب الرسول r قد وقعت بشكل حسي مادي ؛ حيث تم غسل القلب المعنوي موطن الاعتقادات والمشاعر ، وكذلك استخراج موضع قابلية الإنسان لتلقي وساوس الشيطان ، وقد عبر عنه الأثر بكلمة علقة ، فهذا التصوير الحسي المادي إنما يشير بوضوح إلى أننا أمام بشر تصطنعه العناية الإلهية لأمر عظيم ، وتهيؤه لمقام محمود ، وحصولها بصورة حسية يعاينها بعض البشر ويبقى أثرها على صدره الشريف ليكون ذلك أقرب إلى تصديق الناس له وليتحققوا كمال باطنه كما عاينوا كمال ظاهره .
   فهذه الحادثة إمعان في تطهير النبي r  وتهيئته للرسالة وتأكيد على العصمة الإلهية له خلال صباه لينشأ على أكمل الأحوال بعيداً عن صولات الشيطان ووساوسه وبعيداً عن حالات الصبا العابثة المستهترة ، وهي أشبه بتلك العصمة التي نالتها مريم وابنها ؛ حيث لم يمسهما الشيطان عند ميلادهما .
وهذا التطهير لا يشير إلى نقص كان في طهارة النبي r قبل الحادثة ، بل تأكيد على طهره الذي تعهدته العناية الإلهية في أصلاب الأطهار وهو نطفة ، حتى أصبح في صفاء النور من طهره ، ولعل أبلغ ما قيل في حادثة شق الصدر ما ذكره السيد الحبشي :
وما أخرج الأملاك من قلبه أذى                ولكنهم زادوه طهراً على طهر .
وهناك إشارة لطيفة لحادثة شق الصدر  ذكرها محمد علوي في كتابه الأخبار والآثار : « إن قلب محمد r مملوء بالرحمة ، بل هو منبعها وأصلها كما قال الله سبحانه وتعالى : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين . ) وهذه الرحمة شاملة كاملة .. ولكن الله أخرج الشيطان وأعوانه وإخوانه ومن قدر عليه الشقاء من هذه الرحمة ، فلا نصيب لهم فيها ولا شيء لهم منها ، ويكون المعنى حينئذ أنهم أخرجوا من قلبه الشريف حظ الشيطان من رحمته ، فلا حظ للشيطان من هذه الرحمة ، والله أعلم . » ([5])
هذه بعض المعاني التي سنحت في بيان الحكمة من ظاهرة شق الصدر ، والله أعلم بالمراد منها ، يكفي في هذا المقام الإشارة إلى أننا لسنا أمام بشر عادي ، بل أمام شخص منظور له من السماء تتعهده العناية الإلهية وتتكفله التربية الربانية  ليكون المثل البشري الكامل وخلاصة جهد النبوة ومجمعها ، ومثل هذه الأحداث بالنسبة لمن حوله تبرز أن إعلان النبي r عن بدء رسالته لم تكن مفاجأة عارية عن المقدمات ،  بل كانت تفسيراً لسبب الخصوصية التي نالها محمد r منذ اللحظة الأولى لحياته . 


(_ )  الأتان : أنثى الحمار ، والشارف : الناقة المسنة ، ومعنى قولها : ما تبض بقطرة أي أنها عجفاء هزيلة لا حليب في ضرعها . 
([1]) انظر ابن هشام : السيرة النبوية ( 1/117 وما بعدها )   ؛ والطبري : تاريخ الطبري ( 1/454 وما بعدها )
([2]) المناوي : فيض القدير ( 3/44)
([3]) انظر ابن هشام : السيرة النبوية ( 1/118)
([4]) أخرجه مسلم برقم 162 [ صحيح مسلم 1/147) ]
([5]) انظر الحسني : محمد الإنسان الكامل ( 29 وما بعدها )  

ليست هناك تعليقات: