الجمعة، 11 مايو 2012

حال البشرية قبل بعثة النبي محمد


مدى حاجة البشرية للرحمة العالمية
لا يمكن معرفة مدى التغير الحاصل للبشرية بعد بعثة النبي محمد r   إلا إذا تبين لنا مدى الانحطاط البشري على مستوى العالم قبل الرسالة ، ولا يمكن أن نتعرف على عظمة الإسلام إلا إذا أحطنا بحال الجاهلية قبله ، والحقيقة التي يجمع عليها المؤرخون أن القرن السادس لميلاد المسيح كان من أحط أدوار التاريخ البشري ، وقد كانت الإنسانية سائرة إلى الانحدار منذ قرون قبل هذا التاريخ ، ولم يكن ثمة قوة تمسك بيدها وتمنعها من التردي بل زادتها الأيام سرعة في هبوطها وقوة في انحدارها ، ويمكن بيان ملامح تلك المرحلة فيما يلي   : ([1]
وضع الجزيرة العربية مهد الإسلام :
الجزيرة العربية عبارة عن شبه مستطيل غير متوازي الأضلاع شماله فلسطين وبادية الشام وجنوبه المحيط الهندي ، وشرقه الخليج العربي ونهري دجلة والفرات ، وغربه البحر الأحمر ،  وأغلب الجزيرة كانت حياة بدوية تعتمد على الرعي والكلأ ، إضافة إلى بعض الحواضر والمجتمعات الصغيرة الداخلية ، والتي كانت تمتهن التجارة عبر طريق التجارة بين الشام واليمن ، وعلى أطرافه ثلاثة حواضر هامة ، وهي اليمن في الجنوب و حاضرة المناذرة والغساسنة في الشمال .
الحالة الدينية :
أغلب الجزيرة العربية كانت على دين الشرك أو على بقايا دين إبراهيم , وأطرافها كان على دين النصرانية والمجوسية ، وكانت تعج بالأصنام التي تعبد من دون الله سبحانه وتعالى ، وكانوا يدعون أنهم على دين إبراهيم وهم أبعد الناس عن تعاليمه وعن مكارم الأخلاق التي كان يدعو إليها ، وكان دينهم عبارة عن عادات وتقاليد ممزوجة بخرافات الوثنيين ، ويحكمها الهوى والمصالح الشخصية ، أو بعبارة أخرى كان الدين لديهم عبارة عن نسج بشري ابتدعه البعض ليوافق مصالح الأقوياء وأهواءهم دون أن يكون له ضابط معين أو تعاليم خلقية محددة ؛ لذا كثرت أصنامهم ومعبوداتهم وتسللت إليهم التقاليد الباطلة والأخلاق الفاحشة وانتهوا إلى ضلالات وقبائح متعددة في المعتقدات والأفعال ، بل تردى حالهم ومسخ فكرهم الإنساني  لدرجة أصبح كل حجر في الجزيرة العربية أو في موطن الحرم المكي يصلح أن يكون معبوداً من دون الله حتى عهد عن العربي أنه كان يأخذ معه في أسفاره أربعة أحجار يتخذ ثلاثة منها موقداً أما الحجر الرابع فيسجد له ويتخذه إلها من دون الله سبحانه وتعالى ، وإن لم يجد حجراً كان يجمع حفنة من التراب ثم يأتي بالشاة فيحلبها عليها ثم يطوف بها ، بل وصلت السخافة والانحطاط الفكري لدرجة أنهم كانوا يعبدون حجراً فإذا وجدوا غيره أفضل منه ألقوا الحجر الأول وعبدوا الآخر ([2])  ، إضافة إلى شعائر تعبدية قبيحة ابتدعوها منها الطواف بالبيت عراة بحجة عدم الطواف بثوب ارتكب فيه ذنب  ، فهذه حال العرب ممن توارثوا دين إبراهيم وإسماعيل فغيروا وبدلوا في جوهره وإن أبقوا على بعض صوره كتعظيم البيت والسعي بين الصفا والمروة ، ولم يبق على دين الحنيفية التي جاء بها إبراهيم إلا قلة قليلة لم يغيروا في الواقع المرير ، وفروا في دينهم من آتون الجاهلية التي استعرت في كل قبائل الجزيرة .
وكانت اليهودية في الجزيرة العربية في قبائل متعددة سكنت فيها انتظاراً لخروج نبيهم المنتظر فيها  ، وهي لم تكن أحسن حالاً من الوثنيين ؛ حيث انقلبت رياء وتحكماً وصار رؤساؤها أرباباً من دون الله سبحانه وتعالى ، وحادوا عن نهج موسى r   وهديه إلى تعاليم ابتدعوها ، وجعلوا همهم الحظوة بالمال والرياسة ، ولم يعتنوا بعلاج ظاهرة الإلحاد والكفر ، بل كانوا يستغلونها لتحقيق مآربهم الخاصة ، وأما النصرانية فلم تكن أحسن حالاً ؛ حيث تحولت إلى رموز معقدة وخلطت بين مفهوم الإله والإنسان خلطاً عجيباً وانقلبت  إلى رهبانية لا تعنى بعلاج الواقع الأليم .
الحالة الاجتماعية والخلقية .
كان للفوضى الدينية في الجزيرة العربية أثرها على الناحية الاجتماعية والخلقية ، فالعربي لم يكن يهتم إلا بنفسه ومصالحه وأهوائه ، وكان لطبيعة المجتمع القبلي أثره في إحياء جانب من الأخلاق الفاضلة كالشجاعة ونصرة القبيلة والاعتزاز بالعشيرة ، وفي نفس الوقت ترسبت منه كثير من الأخلاق الذميمة كامتداح الظلم وحب السيطرة على الضعيف واستغلاله ، وانتشار الطبقية الذميمة وما ترتب عليها من ظاهرة الأسياد والعبيد بأقبح صورها ؛ حيث كانت مكانة العبد شبيهة بمكانة أي متاع في البيت يتصرف به صاحبه كيفما شاء ، إضافة إلى أن التعلق بالقبيلة ترتب عليه تفكك أوصال المجتمع بين القبائل والتي كانت تنتهي أحيانا بالحروب المتعددة بينها فالعربي ينصر قبيلته سواء كانت على الحق أوالباطل (_ ) ، وأحيانا يكون التنافس على الشرف والسؤدد في القبيلة الواحدة سبباً للحروب المستعرة  .
وكان العربي ينظر للمرأة نظرة شؤم لا يفرح لقدومها للحياة الدنيا ، ويسلبها حقوقها ، وأحياناً يعتبرها متاعاً كأي متاع آخر في البيت  ، و يملك أن يتزوج منها دون عدد محدود ،  وأحيانا يسلبها حقها في الحياة بوأدها وهي حية ،  إضافة إلى انتشار فاحشة الزنا واستغلال المرأة من خلالها  استغلالاً مهيناً ؛ وكانت بيوت للدعارة منتشرة في الجزيرة العربية ، وتعرف هذه البيوت بذوات الرايات الحمر ؛ حيث كانت الأمة التي تستغل للبغي من قبل سيدها ترفع فوق بيتها راية حمراء ليغشاها الزناة ، أما الحرائر فكن يتخذن أخداناً من الرجال الأجانب عنهن يتصلن بهم ويقمن معهم علاقات سرية .
يضاف إلى ذلك أن كثيراً من الرذائل قد تحولت إلى فضائل : كشرب الخمر والميسر والظلم   ؛ حيث كانت تنظم فيها الأشعار في مدحها وتعزيزها في المجتمع ،و أحياناً كان العرب لا يرون عاراًَ في الانتساب من الفاحشة ،  وهذا واضح من خلال انتشار ظاهرتي نكاح  الاستلحاق والاستبضاع (_ )   .
 ومن العادات الاقتصادية السيئة المبنية على الاستغلال والتي تغلغلت بشكل واسع في المجتمع الجاهلي بمؤازرة
اليهود الربا الذي كانوا يأخذونه أضعافاً مضاعفة ، وما ترتب عليه من طبقية اقتصادية وما ترسب منه من ضغائن وأحقاد .
الحالة السياسية :
بالنظر إلى عموم الجزيرة العربية نلحظ أنها كانت عبارة عن قبائل تعيش في صحراء ، وجل اعتمادها على الرعي والكلأ ، وقد أثر ذلك في نفسية العربي التي كانت دائماً ثائرة على كل شيء حوله ؛ لذا كان يسهل التناحر بين القبائل لأتفه الأسباب ، بل كان المجتمع العربي بأكمله يعيش حياة الغاب التي يأكل فيها القوي الضعيف ، ولا يرعى أي حرمة لمن وقع تحت السيف ، وكان السلب والنهب والغارة على القبائل الأخرى جزءً من ثقافة العربي يتغنى بها ويمتهنها ؛ فالعربي لا ينام ليله لأنه في حالة استنفار دائمة ؛ فهو إما يعد لغارة أو ينتظر من يغير عليه ، وكانت أتفه الأسباب سبباً لإشعال الحروب الطاحنة بين القبائل وأكبر شاهد على ذلك حرب داحس والغبراء التي وقعت بين عبس وبين ذبيان وفزارة  وحرب البسوس التي كانت بين بكر وتغلب ، وحرب بعاث التي وقعت بين الأوس والخزرج  ، خلاصة القول : كانت القبائل العربية مفككة الأوصال متطاحنة فيما بينها تأكلها الحروب ، ولا تجتمع على رأي ،ولا تقبل أي قبيلة أن تخضع لغيرها، واستحقوا بذلك وصف كلاب الصحراء وآكلي الجعل .
وضع الشام ومصر :
كانت الشام ومصر تحت الحكم الروماني وكانت تدين بالنصرانية ، وعلى أطراف الشام الجنوبية كان العرب الغساسنة الذين كانوا يدينون بالولاء للروم ؛ حيث كانوا عمالاً لهم يحققون مصالحهم في حماية الثغور والغارة على المعتدين على الدولة الرومانية من جهة الجنوب والشرق ، ولم يكن حال العرب الغساسنة بأحسن من حال عرب الجزيرة فهم إمارات متعددة ، وأحياناً متناحرة على الشرف والسؤدد ، وحيناً تطحن أبناءها لصالح الروم .
أما مصر ، فقد أكره أهلها على اعتناق النصرانية في مرحلة هبطت بمصر إلى الحضيض بسبب الاختلافات الدينية الكثيرة في ذلك الزمن بين المذاهب النصرانية المتعددة ، وكان يترتب على ذلك اضطهاد ديني بين تلك الفرق ، فالفرقة المعتمدة لدى الحكم الروماني كانت تضطهد غيرها من الفرق و تهيمن عليها ويترتب على ذلك فرار أصحابها من وجه السلطان نحو البراري والقفار ، وكان بعض أشكال الاضطهاد تقشعر منه الأبدان فرجال كانوا يعذبون ثم يقتلون إغراقاً ، وتوقد المشاعل وتسلط نارها على الأشقياء حتى يسيل الدهن من الجانبين على الأرض ، ويوضع السجين في كيس مملوء بالرمل ثم يرمى به في البحر ، ولم يكن الدين المسيحي في تلك المرحلة إلا رموزاً ومناظرات عنيفة بين الفرق لا رصيد له من الناحية الواقعية ، ولا أثر له في تغيير حياة الناس نحو الأفضل .
يضاف إلى تلك الانقسامات الدينية وما جرت إليه من شرور داخل القطر الواحد كان هناك استبداد الحكام من خلال مضاعفة الضرائب وزيادة الإتاوات مما فجر حقداً داخلياً بين الحاكم والرعية  ، ولم يكن حال الشام ومن ورائها الدولة الرومية الشرقية بأحسن من وضع مصر ، مما جعل الشعوب تنتظر ساعة الخلاص من براثن قياصرة قسطنطينة الظالمين ، ولشدة ظلم الحكام واستبدادهم واستغلالهم للرعية  كانت تحصل الاضطرابات والثورات من حين لآخر  ، وقد هلك بسبب بعض الاضطرابات ما يقرب من ثلاثين ألفاً في عاصمة الدولة الرومية الشرقية وحدها .  
وضع دولة فارس :
دولة فارس هي الدولة العظمى الشرقية مقابل دولة الروم الغربية ، وكان المجتمع الفارسي مجتمعاً طبقياً من
الدرجة الأولى ، وكان من قواعده أن يقتنع كل فرد بمركزه الذي منحه إياه نسبه فلا يطمح لغيره ، وقد كان هذا التفاوت بين طبقات الأمة امتهان شديد لإنسانية الإنسان ؛ حيث يقوم الناس على رؤوس الأمراء كأنهم جماد لا حراك بهم ويجلسون بين أيديهم في ذلة وخنوع ،  أما الأكاسرة ملوك الفرس فكانوا يدعون أنه يجري في عروقهم دم إلهي وكان الفرس ينظرون إليهم كآلهة ويرونهم فوق القانون وفوق الاعتقاد وفوق البشر ، ويعتقدون أن لهم حقاً على كل إنسان وليس لإنسان حق عليهم ، وينظرون لعطاياهم أنها من باب الصدقة والتكرم من غير استحقاق ، ولا يجوز لأحد منازعتهم هذا الحق أبداً ، ولا ينافسهم عليه إلا نذل ؛ لذا كان البيت الكياني الذي فيه الملك إذا خلا من رجل يحكمه،  يسندون الحكم فيه إلى النساء وأحياناً للأطفال .
   أما عن ديانتهم فقد كانت عبادة النار التي انتهت إليها الديانة الزرادشتية بعد تحريف وتعديل في تعاليمها حتى أصبحت طقوساً لها معابد خاصة وساعات خاصة يؤدونها  فيها  ، أما خارج المعابد ، فلا علاقة لديانتهم في حياتهم العامة والخاصة حيث يكونون أحراراً يسيرون على هواهم وما تمليه عليه نفوسهم .
أما عن الناحية الخلقية فقد كانت في أسوأ أحوالها خاصة بعد أفكار مزدك السوداء الذي أعلن أن الناس ولدوا سواء لا فرق بينهم ، واقتضت السواسية عنده الشيوعية في أخص الأشياء كالأموال والنساء ، فأباح الأموال وأحل النساء وجعل الناس شركة فيهم كاشتراكهم في الماء والكلأ والنار .
وقد استغل السفلة أفكار مزدك وبدءوا بترويجها في المجتمع الفارسي وقوي أمرهم حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره ، فيغلبونه على منزله ونسائه وأمواله لا يستطيع الامتناع منهم ، فلم يلبثوا قليلاً حتى صار الرجل فيهم لا يعرف ولده ولا المولود أباه ولا يملك شيئاً مما يستمتع به .
وضع الصين :
أما الصين فقد كانت تسودها ديانتان الكونفشيوسية والبوذية ، أما الكونفشيوسية فقد كانت تهتم بالحكمة ويتعبد أفرادها ما يشاءون من الأشجار والأنهار ، ولم يكن في هذه الديانة أي نور من يقين و لا باعث من إيمان إنما هي تجارب خبير وحكمة حكيم .
أما البوذية فقد كانت في بادئ أمرها دينا بسيطاً ثم سيطر عليها البراهمة الذين حولوها إلى وثنية تحمل معها الأصنام حيث سارت و تبني الهياكل وتنصب فيها تماثيل  بوذا حيث حلت ، إلى أن غمرت تلك التماثيل  حياة البشر  ، وتسرب إلى مناهج العبادة  كثير من أشكال السحر والشعوذة والأوهام  إضافة إلى آلاف الأصنام والتماثيل التي عجت بها البلاد وتقام لها الاحتفالات التي يشارك فيها المجتمع بأكمله من الملك إلى الصعلوك  ، وكانت البوذية والبرهمية تعتني برياضة النفس وقمع الشهوات والتحلي بالفضائل ، إلا أنها لم تحل مشاكل المجتمع وأصبحت أقرب للرهبنة عند المسيحية ،  إضافة إلى الطبقية التي كان يعتقدها البراهمة والتي حطت من مكانة غير البرهمي  .
 وضع الهند :
سيطر على الهند الديانة البرهمية والتي أفرزت نظاماً اجتماعياً طبقياً مقنناً هو الأسوأ في الأرض حيث قسم القانون الرسمي للبلاد أفراد المجتمع إلى أربع طبقات ، وهي : البراهمة وهم طبقة الكهنة ورجال الدين ، وطبقة رجال الحرب المعروفة باسم شترى ، وطبقة رجال الزراعة المعروفة باسم ويسن ، وطبقة رجال الخدمة المعروفة باسم شودر ، وقد منح القانون طبقة البراهمة امتيازات ألحقتهم بالآلهة واعتبرهم صفوة الله وملوك الخلق ، وكل ما في العالم فهو ملكهم ولهم أن يأخذوا من مال عبيدهم من طبقة شودر ما شاءوا لأن العبد لا يملك شيئاً و كل ماله لسيده ، ولا يجوز للملك في أشد الظروف أن يجبي من البراهمة أي جباية أو إتاوة ، وإن استحق البرهمي القتل لم يجز للحاكم أن يقتله بل يحلق رأسه فقط أما غيره فيقتل .
وأما الشتري ( الطبقة الثانية ) فهي وإن كانت فوق الطبقتين الأخريين إلا أنهم دون البراهمة ، والبرهمي الذي هو دون العاشرة أفضل من الشتري الذي ناهز المائة من عمره ، أما طبقة الشودر فكانوا في المجتمع الهندي أحط من البهائم وأذل من الكلاب ، ولا يحق لهم أن يجالسوا البرهمي ولا أن يقتنوا مالاً أو يدخروا كنزاً ، وكفارة قتل الكلب والضفدع والغراب ورجل من الشودر سواء .
أما المرأة في الديانة البرهمية فهي عندهم بمنزلة الأمة ؛ لدرجة يمكن أن يخسر الرجل امرأته في القمار ، وأحيانا يكون للمرأة عندهم عدة أزواج ، وإذا مات زوجها ليس من حقها أن تتزوج ، وتكون هدفاً للإهانات والتجريح وتبقى أمة بيت زوجها المتوفى وخادم الأحماء وقد تحرق نفسها على أثر وفاة زوجها لتتخلص من عذاب الحياة وتتفادى شقاء الدنيا .
خلاصة حال البشرية قبل البعثة :
لعل أدق وصف لحال البشرية يبرزه صاحب الوحي r    بقوله :  «  أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا ، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ  ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ . »  ([3])   
الأثر السابق يبرز مدى تردي البشرية ، ومقت الله لهم بسبب كفرهم وطغيانهم واتباعهم الشياطين  ، ويوضح مدى حاجة البشرية لفجر جديد يخرجها من غياهب الظلم ودياجير الظلمات ، فجر لم تعهد البشرية مثله يسبغ الله أسمى مظاهر رحمته على البشرية من خلاله ، فجر عنوانه محمد r  نبي الرحمة العالمية ومجمع جهد النبوة وخاتمها ، وخلاصته على مدار البشرية ، يصف المستشرق الأمريكي ( إدوارد ورمسي ) حال البشرية قبل البعثة والأثر المحمدي في البشرية عموماً بقوله : « كانت بلاد العرب غارقة قبل نبوة محمد (r )   في أحط الدركات حتى ليصعب علينا وصف تلك الخزعبلات التي كانت سائدة في كل مكان ، فالفوضى العظيمة التي كان الناس منهمكين فيها في ذلك العصر ، وجرائم الأطفال ووأد البنات وهن أحياء ، والضحايا البشرية التي كانت تقدم باسم الدين ، والحروب الدائمة التي تنشب آنا بعد آن بين القبائل المختلفة  ، والنقص المستديم في نفوس أهل البلاد وعدم وجود حكومة قوية .. كل هذا كان سبباً في زيادة الهمجية بين الناس وازدياد الجرائم وانتهاك الحرمات ، وهذه حقيقة يحملها التاريخ ولا يمكن إنكارها ، نعم كانت بلاد العرب في حالة تشويش وبلبلة ، وفي فوضى منتشرة لم يسبق لها مثيل في تاريخ أية أمة من الأمم .. أما الأديان السماوية التي جاء بها موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء فقد فقدت نقاءها وفضيلتها الأصلية في ذلك العهد ، وعبثت بها أيدي العابثين فحرفوا كلام الله ولوثوا معتقداتهم بخزعبلات واعتقادات لم ينزل الله بها من سلطان ، حتى أصبح الناس لا يفرقون بين الفضيلة والرذيلة ، وبين الحق والباطل .. وهناك بزغ فجر عصر جديد كان يرى في الأفق ، وبشرت الأيام بسطوع شمس العرفان ، وانقشاع سحب الجهالة المظلمة التي أخفت النور السماوي عن أبصار الناس زمنا طويلاً ، وأتى اليوم الذي أعادت فيه يد المصلح العظيم محمد r   ما فقد من العدل والتسامح والفضيلة . » ([4])   
ويقول وينسون في كتابه ( الحركات كأساس للحضارة ) : « في القرنين الخامس والسادس – يعني قبل البعثة – كان العالم على شفا جرف هار من الفوضى ؛ لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة قد انهارت ، ولم يكن ثمة ما يعتد به مما يقوم مقامها ، و كان يبدو إذ ذاك أن المدنية الكبرى التي قامت في العالم بعد جهود أربعة آلاف عام مشرفة على التفكك والانحلال ، وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية ؛ لأن القبائل كانت تتحارب وتتناحر ولا قانون بينها ، ولا نظام ينظم حياتها ، فكانت تعمل على الفرقة والانهيار بدلا من الاتحاد والنظام ، وكانت المنية كشجرة ضخمة متفرقة امتد ظلها إلى العالم واقفة تترنح بحيث قد تسرب إليها العطب حتى اللباب .. وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم جميعه . » ([5])
ويقول مسيو جول لابوم الفرنسي : « حوالي ميلاد محمد (r ) نبي الإسلام في القرن السادس الميلادي كان جو العالم ملبداً بغيوم الاضطراب والفتن الوحشية في كل مكان حتى كان اعتماد الناس في سبل حياتهم على وسائل الشر أكثر من اعتمادهم على وسائل الخير ، وفي عهد هذه الأحوال الحالكة المظلمة ولد محمد بن عبد الله ( r ) رسول الإسلام ليتابع طريقه في تخليص الأمم من تحجرها ودفعها إلى سبيل الرقي والعمران ، حتى بلغت الغايات البعيدة التي خلقت لبلوغها . » ([6])     


([1])  انظر تفاصيل حال البشرية قبل البعثة عند : الندوي : ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ( 37 وما بعدها ) ؛ محمد : عالمية الدعوة الإسلامية ( 77 وما بعدها ) ؛ المباركفوري : الرحيق المختوم ( 28 وما بعدها )  ؛ الجزائري : هذا الحبيب ( 28 وما بعدها )
([2])  انظر الحديث الذي أخرجه البخاري برقم 4376[ البخاري مع الفتح ( 7/692) ]
(_ )  من ذلك المثل الجاهلي  : انصر أخاك ظالما أو مظلوماً ، والذي غير النبي  r   مفهومه بجعل نصرته ظالماً من خلال حجزه عن الظلم ، ومن ذلك هذا البيت الذي تغنى به دريد بن الصمة حكيم العرب وشاعرها حيث قال : وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت ، وإن ترشد غزية أرشد . فهذا هو منطق العربي الذي يحكم علاقته بقبيلته وبالمجتمع حوله ، وهو نصرة القبيلة بأي حال سواء كانت مظلومة أو ظالمة .   
(_ )    نكاح  الاستلحاق  : هو أن يرسل الرجل زوجته إلى رجل مرغوب في صفاته لكي تطلب منه الجماع ، ويعتزلها زوجها في المدة التي جامعت فيها ذلك الرجل حتى يتبين حملها منه ، أما نكاح الاستبضاع : فصورته أن يجتمع الرجال فيدخلوا على المرأة الواحدة ، فإذا حصل حمل أو ولادة ، جمعت أولئك الرجال وألحقت الولد بمن شاءت منهم دون أن يكون له حق الاعتراض فيصبح ولده حسب عرف الجاهلية . [ انظر المبيض : مصلحة حفظ النفس ( 166 وما بعدها ) ]  
([3])أخرجه مسلم برقم 2865 [ صحيح  مسلم  ( 4/2197) ]   
([4])نقلاً عن عبد الوهاب : محمد رسول الإسلام في نظر فلاسفة الغرب ( 12 وما بعدها )   
([5])المرجع السابق ( 13)
([6]) المرجع السابق ( 17) 

ليست هناك تعليقات: