الجمعة، 11 مايو 2012

الميلاد العظيم


جاء في حق موسى r   بعد رحلة طويلة منذ الميلاد وصولاً إلى بيت فرعون ،  ثم هربه إلى مدين وبقاؤه فيها عشر سنوات ، ثم عودته ومروره بوادي طوى المقدس حيث كانت بداية البعثة ، هناك خاطبه ربه I عن تلك الرحلة الطويلة بقوله : « وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي  » ([1]) مما يشير إلى أن ما قبل البعثة تكون مرحلة اصطناع وتهيئة لحمل الرسالة .
هذا بخصوص موسى r صاحب شريعة بني إسرائيل ،  أما بخصوص محمد r كخلاصة جهد النبوة في الأرض  ومجمع الخير فيها ، و صاحب رسالة الرحمة العالمية فقد حاطته العناية الإلهية وصاغته مرحلة الاصطناع ليتهيأ لحمل عبء أعظم رسالة عرفتها البشرية ، رسالة شاء الله سبحانه وتعالى أن يختم بها النبوة على الأرض  بختام المسك لتكون رحمة عالمية للبشرية جمعاء إلى قيام الساعة ، رسالة كانت مقدرة لصاحبها   وآدم منجدل في طينته ، ولهج بالدعوة لها أبو الأنبياء إبراهيم ، وبشر بها موسى وعيسى عليهما السلام ، بل ما من نبي إلا بشر بمحمد r كأعظم رحمة تعرفها البشرية خاصة أنبياء بني إسرائيل .
ومن هذا الوجه نقول أن مرحلة ما قبل البعثة تضمنت الكثير من معاني الاصطناع والتهيئة ، ولا يتصور فهم رحلة الرسالة دون الحديث عنها ، والتي سنلحظ أنها تهيئة تتناسب وعنوان الرسالة وهو كونه رحمة للعالمين . 
أولاً : النسب الشريف :
 هو مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعبِ بْنِ لؤَيِّ بْنِ غالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ  .
هذا القدر الثابت من نسب محمد r ، والذي يقطع به بعد ذلك هو أنه ينتهي نسبه إلى إبراهيم عليه السلام من جهة ولده إسماعيل عليه السلام ، وهذا النسب الشريف يعتبر من أشرف الأنساب وأزكاها ، نسب إبراهيم خليل الله دعامه وإسماعيل نبي الله سنامه ، وكنانة زمامه وقريش نظامه وهاشم تمامه ، ولم يكن في آبائه مسترذل ولا مستبذل ، بل كلهم سادة وقادة ، يقول أبو طالب عن شرف نسب النبي r :
إذا اجتمعت يوماً قريش لمعشر               فعبد مناف سـرها وصميمها
وإن حصلت أنساب عبد منافها             ففي هاشـم أشرافها وقديمها
وإن فخرت يوماً فإن محمـداً              هو المصطفى من سرها وكريمها ([2])
ثانيا: الميلاد .
تضمن ميلاد النبي عدة إشارات هامة منها :
1- كونه في عام الفيل ، ذلك العام الذي رأت فيه مكة مظهراً من مظاهر قدرة الله I وفيضاً من رحمته بإرسال طير أبابيل على جيش أبرهة الغازي للحرم المكي ، وفي ذلك فأل حسن بأن ميلاده كان في عام خير وبركة لهم ؛ كذلك رؤيتهم لقدرة الله عياناً يهيئ أنفسهم للإيمان بالقوة الغيبية التي سيدعو لها محمد عليه السلام ؛ لذا لاحظنا أن الآيات جاءت لتذكر قريش بهذا الحدث الهام الذي عاينوا فيه القدرة الإلهية ، وكما امتن الله I على قريش بالدفع عنهم من جيش أبرهة كذلك يمتن عليهم بإرسال سيد المرسلين من بينهم .
2- قال r : «  إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ دَعْوَةِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةِ عِيسَى قَوْمَهُ وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ »  ([3]) فهذه الرواية تشير إلى النور المحمدي الذي أضاء قصور الشام ، وفي تلك الرؤيا التي رأتها آمنة دلالات منها ، عالمية الرسالة وخروجها عن حدود موطنها الأصلي ، أما النور فتلك إشارة مجازية إلى الخير والبركة والرحمة التي ستنالها البلاد بهذا الجنين الذي كان في بطنها ، وفي الأثر  إشارة  إلى تلك البذرة المباركة وتقلبها في أصلاب الأطهار إلى أن جاء قدرها بالخروج للدنيا .
3- كونه ولد يتيم الأب ثم فقدانه الأم بعد وقت قصير قضى أكثره بعيداً عنها في ديار سعد  له دلالات منها :  أن اليتم يتضمن حالة حرمان من عطف الأب وحنوه ، وهذه تجربة عاشها النبي r بنفسه ؛ لذا كان أقدر الناس على الإحساس بها والدعوة إلى تعويضها ، بل تعويض كل حرمان يعيشه البشر ، ومن هذا الوجه كان اهتمامه الخاص بالأرملة واليتيم كما سيتضح لنا في الفصل الرابع من هذا البحث ، كذلك اليتيم هو أقدر الناس وأكثرهم إحساساً وتقديراً لفضيلة الرحمة ؛ لذا عاش نبي الرحمة تجربة عملية تؤهله لرسالته ، وهذا المعنى انتبه له المؤرخ الإنجليزي ويليم موير عندما قال : « إن يتيم آمنة العظيم قد برهن بنفسه على أنه أعظم الرحمات لكل ضعيف، ولكل محتاج إلى المساعدة. » ([4])
كذلك يعتبر الأب السبب القريب في الحنو والتربية والرحمة والإيواء للولد ، ويأبى الله I أن يترك محمد r للأسباب القريبة لتؤويه ، بل تكفلت العناية الإلهية بذلك ، فحُرِم النبي r من المربي الأصغر ( الأب والأم  ) ليتولى تربيته وإيوائه المربي الأكبر ( الله ) وهذا المعنى امتن الله به على محمد r بقوله :  } أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى  { ([5]) ؛ إنه الإيواء الإلهي والاصطناع الرباني للرحمة العالمية   


([1])  طه : الآية 41
([2]) جاد المولى : المثل الكامل ( 12)
([3])  أخرجه احمد [ المسند ( 4/127) ] ؛ وابن حبان في صحيحه برقم 6404 [ صحيح ابن حبان ( 14/312) ؛ والحاكم برقم 4175 [ المستدرك ( 2/656) ] ؛ قال الهيثمي : أحد أسانيد أحمد رجاله رجال سعيد بن سويد وقد وثقه ابن حبان [ مجمع الزوائد ( 8/233) ] ؛ و انظر البغوي   برقم 3520 [ شرح السنة ( 7/13) ] 
([4])نقلاً عن عبد الوهاب : محمد رسول الإسلام في نظر فلاسفة الغرب ( 45)   
([5])الضحى : الآية 6

ليست هناك تعليقات: