الأحد، 10 يونيو 2012

الإسراء والمعراج ( أسرار وتأملات )


الإسراء والمعراج  .
في السنة العاشرة (_ )    يأتي جبريل عليه السلام للنبي r  ليلاً ،  فيأخذه إلى المسجد الحرام ، وتجرى له عملية شق الصدر مرة أخرى يطهر فيها القلب ويحشى حكمة ، ثم تُهيأ له دابة البراق فيركبها الحبيب محمد r   فتنطلق به نحو بيت المقدس ، وهناك بعد أن يصلي بالمسجد الأقصى يعرج منه إلى السماء مع جبريل عليه السلام ، وتفتح له أبواب السموات وترحب أهل كل سماء بسيد الكونين والرحمة العالمية ، ويلتقي النبي r   في رحلته هذه بالأنبياء ؛ حيث رأى آدم في السماء الأولى ، وفي الثانية عيسى ويحيى ، وفي الثالثة يوسف وفي الرابعة إدريس ، وفي الخامسة هارون وفي السادسة موسى وفي السابعة إبراهيم عليهم السلام جميعاً ، ثم يرتقي نحو سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة ، ونبقها كقلال هجر ، وتركبها الملائكة من كل موضع وتغشاها أنوار الهيبة والجلال ، ورأى النبي r   عندها جبريل على هيئته الحقيقية له ستمائة جناح ما بين كل جناحين ما بين السماء والأرض ، وفي تلك الرحلة فرضت عليه الصلوات التي كانت في بدايتها خمسون وانتهت إلى خمس صلوات بأجر خمسين ، ورفع له البيت المعمور فرآه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم رفع ، وأُدني حتى انتهى إلى مستوى سمع فيه صرير الأقلام وهناك قربه ربه وناجاه وإن لم يره لأنه نور أنى يراه .
ونزل النبي r  صبيحة تلك الليلة ، وركب البراق من عند الأقصى حيث رجع به إلى مكة ، وفي الصباح أخبر النبي r   مكة بخبر الإسراء فوجدت فيه مدخلاً للطعن برسالته؛ فالكلام لا تصدقه العقول ، ورحلة تطوى في شهرين ذهاباً وإياباً يقضيها محمد r   في ساعات ؛ لذا وجدت في هذه القصة فرصتها لتكذيب الرسالة والاستهزاء بصاحبها فسألوه عما رأى في طريقه فأخبرهم ببعض العلامات كرؤيته لبعير ند من قافلة فرده على أهله وإخباره عن قافلة أخرى قريبة وبين أوصافها ، فكان الأمر كما أخبر النبي r  ، واستوصفوه مسجد بيت المقدس فمثله الله له فجعل ينظر إليه ويصفه ،  لكن لهول الخبر واستغراب الكثيرين حصوله وإثارته لسخرية قريش ارتد بعض من آمن ، وتشكك البعض في الرحلة إلا القليل وكان الأوفر حظاً منهم بالتصديق به  أبو بكر الصديق الذي قال عندما قيل له إن محمداً يزعم أنه أسري به إلى بيت المقدس ، فقال : إن كان قال فقد صدق ؛ إني أصدقه فيما هو أبعد من ذلك ، أصدقه في خبر السماء يأتيه غدوة أو روحة .
 هذه أبرز أحداث الإسراء والمعراج ، ولي معها عدة وقفات :
الوقفة الأولى : توقيت الرحلة .
جاءت الرحلة في أصعب مرحلة مرت بالحبيب محمد r   ؛ حيث يؤذى ويكذب ، وأصحابه يعذبون ويطاردون ، والأرض قلته وحاربته وأهلها مكروا به ؛ ففي ظل هذه الأحداث كانت رحلة الإسراء  تسرية لقلب الحبيب وتسلية لنفسه ، وتخفيفاً لآلامه وأحزانه ، وقد جاءت آخر آيات من سورة النحل لتحكي طبيعة المرحلة التي مر بها النبي r   قبل الإسراء به يقول الله سبحانه وتعالى : } وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ،  إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ { ([1]) فالآيات السابقة  تشير إلى الهموم المتراكمة في قلب النبي r   كمداً لما يراه من مكر ، وحزنا عليهم لما يراه من تقحمهم النار أمام عينيه بمخالفتهم له ، فجاءت الآيات لتحكي حاله مطالبة له بالصبر وعدم الحزن على الكفار وعدم الضيق من مكرهم ، وختمت الآيات ببيان معية الله سبحانه وتعالى مع أهل التقوى والإحسان ، فكيف بسيد أهل التقوى والإحسان ؟ ومن هذه المعية أن يأتي الفرج من السماء من خلال استقبال ملكوتي لسيد الكونين في مرحلة ضاقت عليه فيها الأرض وقلاه أهلها ؛ و جاءت الآيات التي بعد سورة النحل مباشرة حسب الترتيب القرآني  لتحكي هذا الاحتفال السماوي العظيم والترحيب الملكوتي  بسيد الكونين : } سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ  . { ([2])    
الوقفة الثانية : لقد رأى من آيات ربه الكبرى .
هذه الرحلة كان النبي r   أحوج ما يكون إليها ؛ حيث أسعفته في أحلك الصفحات التي مرت به لتضفي عليه نورانية جديدة يرى من خلالها العالم العلوي وعظمته إضافة  لرؤيته نتائج الأعمال حيث رأى حال الزناة والمرابين والمنافقين وغيرهم ، ورأى الجنة والنار على حقيقتها ، فهذه الآيات الكبرى التي رآها النبي r  قد جددت في فؤاده فكر الرحمة والحنو والعطف والمغفرة ، بل تحول قلبه بعدها إلى منارة الرحمة العالمية ونبعها الأصيل ، خاصة أنه بعد هذه الرحلة كان العهد المدني حيث النصر والتمكين والنبي r   في تلك المرحلة أحوج لفكر الرحمة من العهد المكي ؛ لذا جاءت تلك الرحلة لتريه مدى ضعف الإنسان وغفلته وجهله وظلمه وعدم إدراكه لما ينتظره من عظائم وأهوال ؛ فعاد الحبيب محمد من تلك الرحلة وهمه الوحيد وشغله الشاغل هو كيف ينقذ البشرية مما ينتظرها ؛ و كانت منه عدة مواقف تبرز هذا الهم الذي سيطر عليه ، منها صرخته في منتصف الليل محذراً العرب من شر قد اقترب ، ومنها أنه مر على صحابته الكرام وهم يضحكون فقال لهم تضحكون ووراءكم جهنم والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله سبحانه وتعالى .
فهذا النصوص تعكس نفسية النبي ومدى تغلغل فكر الرحمة في كل جوانب حياته وتصرفاته، وقد عزز ذلك تلك الرحلة الملكوتية التي رأى فيها ما لم ير بشر وعلم فيها ما لم يعلم بشر .
الوقفة الثالثة : } أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ { ([3])
كانت رحلة الإسراء إحدى الممحصات والفتن التي اختُبر فيها ضعفاء الإيمان والمترددون ممن التحق بالصف المؤمن ؛ حيث تشككوا في الحدث واستعظموا الظاهرة ، وأخضعوها لعقولهم القاصرة ففتنوا فيمن فتن ، ولم يبق في الصف المؤمن بعد حادثة الإسراء إلا كل من خالط قلبه بشاشة التصديق وحلاوة الإيمان بالغيب ، والناظر إلى كل الأحداث التي مرت في الدعوة في المرحلة المكية والمدنية يجد أنها كانت مليئة بالممحصات والفتن والابتلاءات التي كانت تترادف لاستخلاص المؤمنين من الدخلاء الذين لا يزيدون الصف المؤمن إلا خبالاً ووهنا ، فبعد التعذيب والحصار الاقتصادي جاء امتحان الإيمان والتصديق من خلال الإسراء  ، وجاءت الهجرة كممحص آخر غربلت عدداًَ  آخر آثر الحياة الدنيا والمحبوبات من وطن وأهل وعشيرة وأموال على أمر الله  ، ثم غزوة أحد التي ميزت بين الخبيث والطيب والمنافق والمؤمن و أهل الدنيا وأهل الآخرة ، ثم جاءت غزوة تبوك أيضاً التي كانت درساً في التفاني والتضحية والصبر لأجل الرسالة ، وهكذا كانت تمر الممحصات على القلوب وعلى أهل الرسالة من بداية رحلتهم مع رسول الله r   إلى أن اكتملت الرسالة ، وهذا من رحمة الله بنبيه ، بتنقية الأتباع وتزكيتهم ليكونوا منارة هدى ورحمة للبشرية بأكملها بعد رسول الله r  وبهذا تتحقق  الرحمة العالمية ، خاصة أن الرعيل الذي كان يربيه النبي r كان يتهيأ لحمل أعباء الأمانة للعالم بأسره . 
د. محمد المبيض                                               كتابه نبي الرحمة            حقوق الطبع محفوظة 

(_ ) اختلف العلماء في تعيين زمن الإسراء ، قيل أنه كان في السنة الأولى للبعثة ، وقيل بعد خمس سنين من البعثة ، وقيل قبل الهجرة بستة عشر شهراً ، وقيل قبل البعثة بسنة ، وأرجح الأقوال أنه كان في شهر رجب في السنة العاشرة للهجرة ، وطبيعة المرحلة وملابسات الرحلة تعزز هذا القول .    
([1]) النحل : الآيات  127 -128
([2]) الإسراء : الآية 1  
([3]) العنكبوت : الاية 2 

ليست هناك تعليقات: